د. مهدي عامري ( المادة الفكرية و المعرفية )
محمد المريبطي ( إدارة الحوار )
آية بلبشير ( الكتابة و التوضيب )
محمد المريبطي. مرحبا بكم في هذا اللقاء الذي سنحاول من خلاله الإطلالة على موضوع من بين أهم المواضيع التي تشغل بالنا في الآونة الأخيرة. درسنا التفاعلي تحت عنوان مستقبل القراءة والتعليم في عالم متغير.
من بين أهدافنا، خلق حوار تعارف وتعريف وتثمين لمجموعة من الأطر التي تمتلك مواهب وقدرات كبيرة على المستوى الأكاديمي و التطبيقي في مجالات متعددة. و ضيفنا اليوم الأستاذ و الدكتور مهدي عامري، الصديق، المعلم الباحث، الإنسان، الأب، الكاتب والخبير في مجال التواصل والتنمية الذاتية. و لنا الشرف العظيم أن نستضيفه اليوم.
بحكم معرفتي بالدكتور مهدي عامري و بعطائه و العديد من النقاشات معه، أستطيع أن أجزم أننا نحتاج إلى حلقات عديدة للتعريف بأعماله و مشروعه الفكري التنويري، وما يسم د. عامري هو امتلاكه لعقل و روح المتعلم و اهتمامه بالبحث العلمي و التأمل والدراسة المستمرة موازاة مع عطائه الغزير و انتاجه العلمي الوافر و اصراره على الوشم في الذاكرة.
الأستاذ مهدي عامري حاصل على الدكتوراه في علوم الاعلام و التواصل بالديار الفرنسية عام 2009، و له عدة أبحاث وأعمال في مجالات التواصل و الشبكات الاجتماعية و السينما و التنمية الذاتية علاوة على إبداعات قصصية متميزة.
كوفيد 19 واقع صعب لا مفر منه، و نحن نحاول أن نتعامل معه من الزوايا الإيجابية و نعاين و نقبل الوباء كوضع اعتيادي جديد.
و يمكن التعبير عن الوباء العالمي بالوضع العادي الجديد، و هذا الواقع دون شك له تأثيرات كبرى في مجالات متعددة من ضمنها القراءة والتعليم.
هذا اللقاء – الذي نتمنى عقبه فتح النقاش عبر الفيسبوك- ينبني على ثلاثة محاور :
- المحور الأول. تحديات القراءة في عالم متغير
- المحور الثاني. التعليم و التحولات المعرفية الراهنة
- المحور الثالث. التعلم الذاتي في زمن الوباء
نحاول مع الأستاذ في البداية الوقوف على دلالة العنوان الذي يتكون من ثلاث كلمات أساسية هي المستقبل والتعليم و العالم المتغير.
و نشير أن مصطلح المستقبل يشير في الوقت نفسه الى الخوف و البحث عن الطمأنينة و تنامي الأمل في الغد الأفضل و ربما سلسلة أخرى من المعاني.
و نطرح في البداية سؤالنا : ما مستقبل القراءة و التعليم في واقع وبائي يهيمن عليه التوجس مما يخبئه لنا المستقبل ؟
د. مهدي عامري. شكرا عزيزي الأستاذ و الكوتش محمد المربطي على هذا التقديم وعلى هذه الاستضافة الجميلة والشكر لكلماتك اللطيفة و أشكرك على هذا اللقاء الذي أتمنى أن يكون لقاء و درسا تفاعليا تواصليا بامتياز، ونتمنى ان شاء الله أن يعقبه المزيد من الدروس التفاعلية التي نحتاج إليها جميعا.
لماذا نبرمج هذا اللقاء ؟
ولماذا نختار هذا الموضوع بالتحديد ؟
من الواجب أن نتناول باستعجال هذا الموضوع الأساسي و الشائك الذي يتنزل في قلب الأحداث الراهنة بكل بساطة لأنه لا يمكن أن نفهم مستقبل التعليم في عالم متغير دون أن نلقي نظرة على واقع و حاضر هذا التعليم، فأنا أعتقد أنه من الأهمية بمكان أن نقف بداية على العنوان وعلى دلالاته و رمزيته القوية.
عندما نتحدث عن التعليم فإننا نتحدث عن الإكراهات المعاصرة التي نعيشها و التي يمر بها جميع سكان الأرض، باعتبار أنه في الشهور الأخيرة أصبحت موازين القوى أي موازين قوى هذا التعليم متخلخلة بفعل جائحة كورونا التي ضربت جميع أقطار المعمور، فأصبحنا نتحدث عن أنواع جديدة من التعليم…
أصبحنا نتحدث عن التعليم عن بعد… أصبحنا نتحدث عن التعليم المعزز بالتكنولوجيا… أصبحنا نتحدث أيضا عن تراجع دور الأستاذ في العملية التعليمية و التعلمية واكتساح و هيمنة التكنولوجيا، فتعليمنا الراهن في ظل الظرفية الوبائية الحالية يشوبه القلق و الخوف و التوجس، ونحن عشنا في الشهور الأخيرة كلنا دون استثناء تجربة الحجر المنزلي وما رافقها من مصاعب على مستوى التحصيل و على مستوى مرافقة الأبناء و على مستوى مواكبتهم في التحصيل، فأصبح الآباء والأمهات الذين أجبروا على ملازمة البيوت يلعبون دور المدرس و المرشد دون خبرة بيداغوجية مسبقة بمهنة التدريس، و صاروا يعتمرون قبعة الأستاذ دون تكوين أكاديمي مسبق…
كل ذلك طرح علينا أسئلة عميقة و جوهرية.
ما هو التعليم الذي نريده؟
هل نريد تعليما كلاسيكيا تلقينيا في ظل الديجيتال؟
و اذا كان المغرب في الشهور الأخيرة قد انخرط في تجربة التعليم عن بعد، و وفر له مجموعة من البرامج و الترسانات التكنولوجية و التلفزية عن طريق البث المباشر و أحيانا غير المباشر لبعض الدروس و الكبسولات التي تم وضعها في عدد من المنصات الرقمية… إذا كانت كل هذه المجهودات قد بذلت فإن هناك صعوبات من ضمنها الفجوة الرقمية يعني الفرق بين من يملك التكنولوجيا ومن لا يملك هذه التكنولوجيا و الفجوة أيضا بين العالم الحضري والعالم القروي، فأصبحت هذه التكنولوجيا التي من المفروض أنها تعد البشرية بالخلاص والرفاهية والمساواة وتحقيق التكافؤ و الولوج إلى المعلومة… أصبحت هي في حد ذاتها سببا لخلق الفاشية و التمييز و احداث الشرخ و الفجوة بين من يملك وبين من لا يملك التكنولوجيا…
و هنا من الضروري الاشارة الى أهمية أن تتولى الحكومات في العالم أجمع مسؤولية تزويد جميع المواطنين بما يلزم من وسائل تقنية للانخراط في الموجة الرقمية لأن ذلك من سمات الديمقراطية و الحق الشرعي في الحياة الكريمة.
ان الموجة الرقمية جرافة و كاسحة حتى بعد تراجع الوباء العالمي في السنوات القادمة ان شاء الله. و هي ليست ترفا فكريا و لكنها فلسفة جديدة في العيش و أسلوب حداثي في التفكير.
محمد المريبطي. ممتاز د. مهدي عامري. أعتقد أن ادماج الديجتال في التعليم أساسي و لكنه غير كاف لأن تعلم كيفية التعلم هو الرهان الحقيقي و لعله من أقوى المهارات التي يجب التزود بها في القرن الحادي و العشرين – قرن الوفرة في المعارف و البيانات. ربما نحن في أمس الحاجة حاليا لبسط وجهات النظر الجديدة في التدريس المعزز بالذكاء الاصطناعي و تقنيات التعلم السريع . في هذا الإطار نود أستاذنا أن تقدم لنا بعض الأفكار الهامة و الجديرة بالمتابعة…
د. مهدي عامري. عندما نتحدث عن القراءة في زمن متغير فلعل أول الملاحظات التي يمكن أن نشير اليها هي الأخطاء الشائعة في القراءة. و أعتقد أن هذه الأخطاء الشائعة هي مدخل رئيسي للوقوف على المهارات التي ينبغي تملكها في ما بعد و التحكم فيها من أجل ممارسة القراءة الفعالة…
من الأخطاء الشائعة في القراءة ما يسمى بالقراءة الخطية ، فعندما تلاحظ قارئا عاديا- أي قارئ – و تأخذ هذا القارئ وتضع بين يديه كتابا بحجم مئة و خمسين أو مائتين و خمسين أو ثلاثمائة صفحة، وتطلب منه أن يقرأه و أن يمدك منه بأهم الأفكار، فإن الخطأ الشائع الذي يقع فيه أغلب القارئين هو مطالعة هذا الكتاب بشكل خطي – يعني من ألفه إلى يائه. ان القراءة الكلاسيكية لهذ الكتاب سواء كان في التاريخ أو الجغرافيا أو السياسة أو الطب أو الهندسة، هي أن يطالعه الفرد من ألفه إلى يائه، و بذلك يضيع ربما الكثير من الوقت و ربما لا يذهب إلى ما هو أساسي في هذا الكتاب، و الحال أن أبسط تقنية للاطلاع الشامل على محتوى الكتاب هي تقنية القراءة السريعة و هناك أيضا ما يسمى بالقراءة التصويرية و هناك تقنيات كثيرة جدا يمكن أن يستفيد منها القارئ الكلاسيكي حتى يسرع من قراءته و يرفع من جودة استفادته للكتب.
لماذا هذه التقنيات لها أهمية كبرى في هذا العالم الذي نعيش فيه أي في عالم الرقمنة و وفرة المعلومات… في عالم طوفان البيانات ؟
لأنه بكل بساطة يجب بكل تأكيد على القارئ أن يكون سريعا حتى لا تصبح عملية القراءة مملة و متعبة، فاذا كنت تستذكر كتب الفلسفة أو كنت تقرأ الصحيفة اليومية أو كنت تقرأ موسوعة من الموسوعات، فإنه يمكنك أن تدرب نفسك على هذه التقنيات، فهناك مجموعة من الخطوات من أجل ضبط و إتقان القراءة السريعة، من ضمنها على سبيل المثال قراءة مقدمة الكتاب، قراءة خاتمة الكتاب، قراءة الفقرات الأولى، قراءة الفهرس أو محتويات الكتاب، والتركيز أيضا على استعمال أقلام ملونة و تلوين أو تسطير فصول الكتاب التي تهمك – كل فصل بلون معين- مثلا الفصول ذات البعد التطبيقي باللون الأخضر، الفصول ذات البعد النظري باللون الأزرق ، الفصول التي تشمل قصص نجاح بعض الأشخاص أو تجارب معينة يسردها الكاتب باللون الأحمر، وما إلى ذلك…
و هناك خطوات ومهارات أخرى يمكن للقارئ السريع أن يستأنس بها و تتعلق أساسا بتحديد الأهداف. يعني ما هي أهداف هذه القراءة ؟ هل هي قراءة من أجل الاستمتاع و الترفيه؟ هل هي قراءة مهنية ؟ لذلك نجد الكثير من المحترفين و المدراء ليس لديهم الوقت الكافي خاصة في الدول الغربية لقراءة الكتب المستجدة في ميدانهم سواء تعلق الأمر بالإشهار أو التسويق أو القيادة أو أي ميدان من هذه الميادين… نجدهم يحددون مجموعة من الأهداف قبل الشروع في قراءة أي كتاب :
لماذا أقرأ هذا الكتاب؟
ما الذي أرغب فيه من خلال مطالعته؟
هل أرغب في الزيادة من رقم المعاملات؟
هل أرغب في التكوين الذاتي؟
محمد المريبطي. شكراً أستاذ مهدي عامري و نمر الآن إلى المحور الثاني و هو التعليم و التحولات المعرفية الراهنة.
ما هو في نظرك الدور الجديد للأستاذ في عصر وفرة المعلومات و الوسائط المتعددة ؟
د. مهدي عامري. أعتقد أن كلمة الأستاذ ربما تكون متجاوزة نوعا ما.
لماذا ؟
لأن الأستاذ الحقيقي ينبغي أن يكون متعلما وطالبا أبديا، فالأستاذ الذي اعتقد أو خيل إليه أنه بلغ درجة الأستاذية فقد حكم على نفسه بالنهاية. هذه فكرة أساسية أود الإشارة إليها لأن الأستاذ الحقيقي هو ذلك المدرب الذي يعطي الحماس و الذي يزرع الثقة و الذي يحدد معالم الطريق و الذي يمسك الطالب من يده ويضعه في السكة الصحيحة و على النهج الصحيح. و الآن مع هيمنة التكنولوجيا في عالم الوفرة و البيانات الضخمة تغير دور الأستاذ كليا، وأصبحنا نعيش في زمن تتسارع فيه المعلومات، و لعل الدور الأساسي الذي يضطلع به الأستاذ الآن أكثر كمن أي وقت مضى هو دور الإرشاد.
يعني كيف يرشد الأستاذ الطالب لأن يختار المعلومة الصحيحة و لأن يغربل محتوى هذا الانترنت لينتقي منه الأجود فالأجود لأن الكثير من الدراسات تشير أن هناك تلوثا فكريا رهيبا في الإنترنت فأكثر من ثمانين إلى تسعين في المئة من محتوى الإنترنت هو محتوى تافه و فارغ، يعني أنه محتوى لا قيمة له، و المحتوى الهادف لا يتجاوز ربما 10 إلى 15 في المئة على أقصى تقدير ، و هنا ينبغي أن ينبه الأستاذ طلابه إلى هذه المسألة ويرشدهم إلى الآليات الصحيحة لغربلة المعلومات و الاختيار الجيد لها..
أعتقد أننا نحتاج أيضا في مدارسنا بمختلف مستوياتها – المستوى الابتدائي و الإعدادي و الثانوي و الجامعي – إلى تقرير مواد تهتم بمناهج البحث الحديثة. يعني مناهج البحث في ظل التكنولوجيا، مناهج البحث على الأنترنت، تقنيات القراءة السريعة التي أشرنا إليها قبل قليل، القراءة التصويرية، محاربة المعلومات الزائفة و الأخبار المضللة و الإشاعات، الى جانب التربية على وسائل الإعلام و التربية على الاستخدامات الرشيدة و الواعية لأدوات التكنولوجيا.
محمد المريبطي . نريد الآن انهاء هذا الدرس التفاعلي لأن الوقت يزاحمنا رغم أن الحديث معك د. مهدي عامري شيق جدا جدا و لا ينتهي… يقول أنتوني روبينز أن التعلم الذاتي هو أهم شيء يمكن للإنسان أن يستثمر فيه. و سؤالي لك هنا هو : ما أهمية التعلم الذاتي و كيف يمكن تشجيعه وتجويده وإبراز أهميته بالنسبة للأشخاص الذين لا يؤيدونه ؟
د. مهدي عامري. التعلم الذاتي أكثر من مهم. لماذا؟ لأن الأستاذ لا يمكنه أن يعطي كل شيء، ولأن الأستاذ أيضا محصور في إطار الزمان والمكان. طبعا في عالم الوفرة و البيانات الضخمة و التكنولوجيا الحديثة والترابطات المستمرة نشير أن الطالب أيضا له مسؤولية عظمى وهي مسؤولية التعلم الذاتي.
و تثبت تجارب العظماء المعاصرين أن أغلب الناجحين في ميادين تخصصهم سواء كانوا من رجال الأعمال أو تجار و كبار القادة في العالم دائما يستشهدون بأهمية التعلم الذاتي لأن التعلم الذاتي هو فرصة للمذاكرة بطريقة أسرع…
هو فرصة أيضا للتكيف مع التغيرات السريعة في هذا العالم المتغير من حولنا. و لعل المناخ الفكري الزاخر الذي يسم العصر الحديث يدفعنا دفعا لابتكار طرق حديثة و جذابة للتعلم و من ضمنها بطبيعة الحال التعلم الذاتي، فما يمكن أن تتعلمه خارج المؤسسة الجامعية أو المدرسة كثير جدا، والديبلومات هي مهمة ولكنها ليست هي الهدف من التعليم و لكنها مجرد أوراق ثبوتية، فما تتعلمه في مدرسة الحياة من خلال العلاقات الاجتماعية والتدريب أكبر بكثير من ذلك الدبلوم الذي تجنيه في نهاية المطاف، لأن الدبلوم – و أقولها بكل واقعية – لا يساوي إلا الحبر الذي كتب به.
لا أقول ذلك بنية تبخيس الديبلومات و الشواهد العليا و الدعوة إلى عدم التعلم… لا أقول ذلك و لا أريد أن أفهم فهما خاطئا لكن التعلم الحقيقي هو التعلم خارج أسوار الجامعة… ففي نهاية الستينات و تحديدا في ماي 1968 كانت هناك دعوة كونية إلى الانعتاق و التحرر…
كان هناك نداء قوي في عدد من البلدان الغربية مثل فرنسا إلى جامعة بلا جدران، و ربما نحتاج في أفق 2022 بل في أفق السنوات القادمة إلى جامعات ذكية تخترقها تكنولوجيات التعلم عن بعد، و عندما نعود إلى جائحة كورونا… الى هذا الوباء الذي ضرب العالم بأسره سوف نلاحظ أنه حتى عندما يزول هذا الوباء يبقى هذا المكسب التكنولوجي أي التعلم الذاتي المرن مكسبا لا يمكن التفريط فيه.
و خير ما أختم به كلامي هو الاشارة السريعة الى بعض التجارب المتقدمة في عدة دول غربية من بينها الدول الاسكندنافية التي أسست في السنوات الأخيرة لمنهج فريد في التدريس قائم على التعلم بالترفيه، كأن تأخذ الطلاب على سبيل المثال في رحلات استكشافية لمدة أسبوعين أو ثلاثة أسابيع خارج المدرسة و خلالها يتعلم الطلاب في أحضان الطبيعة و على قمم الجبال… يتعلمون خارج أسوار المدرسة مهارات و خبرات حياتية لا علاقة لها بالدروس النظرية الجامعية، و الجميل في هذا الأسلوب الرائع في التدريس أن ما يتعلمونه بالضبط هو التركيز على قيم التضامن و التآزر و حل المشكلات. و أعتقد شخصيا أن التعليم في وطننا العزيز يجب أن يسير في هذا الاتجاه و يهدف في جملة ما يهدف اليه الى حل المشاكل و تنمية شخصية المتعلم.