من حيث لا ندري ساهمنا طيلة أسبوع في إخراج لاعبي المنتخب المغربي الرديف من أجواء التركيز الذهني الذي تتطلبه مباراة تقضي بخروج المغلوب ، بغض النظر عن هوية المنافس
قمنا بشحنه منجرين خلف مبالغة الجيران في التعامل مع لقاء رياضي مرشح للانتهاء بفوز هذا الطرف أو ذاك….نعرف الخلفيات والأسباب والمسببات ، التي جعلت نظاما ينزل بكل ثقله دافعا إياه إلى التعامل مع المباراة التي تجمع منتخبه ب” المروك ” وكأنها بلسم لكل مشاكله المتمخضة عن الأوضاع المحتقنة السائدة هناك ، مجيشين ” الخاوة ” لينظروا إلى اللقاء الرياضي الصرف وكأنه مسألة حياة أو موت .
حتى معلق القناة الناقلة – سامحه الله – سقط في فخ استعمال عبارات حربية مثيرة من قبيل ” نار يا حبيبي نار “، “الكر والفر”، ” المعركة ” ، ” الملحمة ” وما إلى ذلك. للأسف تتكرر الأحداث دون أن نسفيد من عبرها
استحضر هنا مضامين كتاب الراحل حميد الهزاز ” فقيه في عرين الأسود ” الذي نجح في تصوير الأجواء السائدة قبل مباراة 5 دجنبر 1979 أمام المنتخب الجزائري نفسه ، وكيف أسهم الضغط في توليد الانهايار، على حد تعبيره
رغم انصرام 42 سنة عن المباراة إياها، يبدو أننا لم نستفد من الدرس… ولكم إقامة مقارنة بين ما اعتمل آنذاك، وكيف تصرفنا مع لقاء كأس العرب لكل غاية مفيدة
هزيمة 1 – 5 أمام الجزائر….
أو حينما يولد الضغط الانهيار
مدركه .
حين أقلب صفحات ماضي دفاعي عن عرين الأسود، أجدها غنية بأطيب الذكريات. لكن أجهل لماذا أحس بمرارة وحرقة أيضا ، كلما استحضرت تاريخ 9 دجنبر 1979 ….تاريخ يحيلني على الهزيمة الثقيلة التي منينا بها ، ونحن نقابل على أرضية الملعب الشرفي بالدار البيضاء المنتخب الجزائري الجار ، لحساب تصفيات الألعاب الأولمبية التي احتضنتها موسكو عاصمة ما كان يعرف سابقا بالاتحاد السوفياتي في العام الموالي.
منطق مباريات الكرة يتفرع إلى ثلاثة نتائج : الفوز والتعادل والهزيمة …لكن الهزيمة بخمسة لواحد، وأمام مركب يعج ب 80000 متفرج ، ووسط ضغط نفسي رهيب كل ذلك جعل الأمر عسير الهضم لدى مختلف مكونات الشعب المغربي الذي انساق خلف الدعاية التي سبقت المباراة بأيام ….
لعب الإعلام ، بمختلف تفرعاته ، دورا سلبيا من خلال إحاطته اللقاء بهالة استثنائية ، مفرغا إياه من طابعه الرياضي ، ليمتد إلى حسابات سياسية كنا في غنى عنها ، خصوصا وأن قضية الصحراء كانت تعيش ذروة حرب ضروس ، طرفاها القوات المسلحة الملكية المغربية ومرتزقة البوليزاريو ، المدعومين من طرف نظامي الجزائر وليبيا بالمال والسلاح .
الصحافة المكتوبة ، خصت هي الأخرى المواجهة بصفحات كاملة ، مقدمة لها بعناوين تحولها إلى حرب ، يجب ربحها بشتى الوسائل . كما أن الإذاعة الوطنية دأبت منذ الساعات الأولى ليوم اللقاء على بث أغاني وطنية حماسية ، ممزوجة بخطابات تحث أنصار المحبين على أخذ أماكنهم بمدرجات الملعب.
النفخ في اللقاء وأهميته ، مكننا من خمسة أيام تحضيرية ب”ماربيا “الإسبانية ، قبل أن نعود إلى مدينة المحمدية واتخاذها مكانا للتجمع القبلي للقاء (هي المدينة ذاتها التي استقر بها الجزائريون ، تحت إمرة المدرب محيي الدين خالف ، العارف بأسرار القدم ونمط العيش المغربيين ، بحكم عاملي الولادة والمنشأ) .
وعكس ما هو متعارف عليه ، وبدل أن تحاط تحضيراتنا بالصرامة الكافية ، ضمانا لظروف الراحة والتركيز المواتيين ، لاحظنا بأن فندق إقامتنا قد تحول ، طيلة الأيام التي فصلتنا عن الساعة الصفر ، إلى محج تقصده شخصيات مدنية وعسكرية مرموقة ، لاعتقادها الخاطئ، بأن في حضورها دعما معنويا لنا ….شخصيات كنا نتابع من قبل أنشطتها وتحركاتها عبر التلفاز ، تقاسمنا مكان الإقامة ، في مقدمتهم الوزير الأول المعطي بوعبيد المتيم بحب الرجاء البيضاي ، وإدريس البصري عراب النهضة السطاتية وآخرين ، نتبادل معهم أطراف الحديث ، وكأننا نعرف بعضنا منذ أمد بعيد … بمجرد ما يغادر فوج حتى يحل آخر مكانه .
ونحن نستعد لشد الرحال صوب الملعب عبر طائرة هيلوكوبتر ، فوجئنا بمن يطلب من مدرب المنتخب الفرنسي غي كليزو الانتقال – على وجه السرعة – صوب القصر الملكي ، لملاقاة الملك الراحل الحسن الثاني ، المعروف بشغفه بكرة القدم وخباياها ….غادر كليزو إلى الصخيرات ، فيما اضطررنا إلى الذهاب دونه ، على أساس أن يلحق بنا في ما بعد .
وجدنا والحافلة التي تقلنا صوب الملعب أن الشوارع المؤدية إليه مجيشة بمختلف أصناف الشرطة ، وكأننا نعيش حالة طوارئ….شوارع شبه فارغة ، لأن الملعب تجاوز طاقته الاستيعابية ساعات كثيرة قبل الانطلاقة ، وهو الشيء الذي لمسناه حين دخولنا إلى أرضيته للقيام بالحركات الإحمائية القبلية ، حيث كانت المدرجات مملوءة عن آخرها لقد شحنوهم أكثر من اللازم ، حتى باتوا يعتبرون الإجهاز على الجزائر ، انتصارا للقضية الوطنية .
نعم، التباين واضح من حيث معدل سن لاعبي المنتخبين : الجزائريون كانوا بصدد إعادة التأسيس مدعمين بجيل كله شباب ، يتحسسون طريقهم في اتجاه الشهرة ، فيما لاعبونا متقدمون في العمر ، يجر أغلبهم وراءه سنوات من الممارسة والتجربة .
كما أن فترة التركيز الذهني القبلية تأثرت بتأخر المدرب في الالتحاق بمستودع الملابس، نتيجة انصرافه إلى ملاقاة الملك، إذ لم يلتحق بالمستودع إلا قبل عشرين دقيقة من وقت الانطلاقة ( وقت غير كافي لهضم التكتيك الواجب اعتماده ) . زد على ذلك أن مغالاة الطاقم المساعد ( حميدوش وبوجمعة ) في التحضير البدني أعطى نتيجة عكسية على أرضية لميدان ،
شعرنا ونحن نطأ أرضية الميدان ، أن أقدامنا وأذهاننا مثقلة بالضغط الذي سيطر على المباراة….. حتى المدرب كليزو بدا شارد الذهن لكونه ظل على ارتباط مباشر وموصول بالقصر. وحسب ما تسرب آنذاك ، فإن الملك من قرر في أمر التشكيل الرسمي للمواجهة ، وتدبيرها بتفاصيلها الدقيقة .
كل هذه العناصر مجتمعة قادتنا إلى منعطف الانفلات وضياع التركيز . وحتى سيرورة أحداث المباراة زادت وضعيتنا تأزما ، حيث تلقت مرماي هدفا مباغثا من قدم بن صاولة ، بعد دقائق معدودة عن صفارة البداية ، عززه بثاني نزل علينا كقطعة ثلج ، مؤججا حرارة المدرجات إلى أقصى درجاتها . قاومنا كثيرا ، مسلحين بالسنوات التي راكمناها في الميادين ، لعلها تسعفنا في التخفيف من آثار الصدمة ، خصوصا بعدما اقتنص الجناح الودادي عبد المجيد اسحيتة ضربة جزاء نفذها بنجاح المدافع المرحوم ليمان . إلا أن ردة فعل الجزائريين جاءت قوية، مكنتهم من إضافة ثلاثة أهداف أخرى ، جعلت الجماهير التي يفترض بأن تشجعنا متشيعة لدعمهم .
بلا لف ولا دوران ، وبكل بساطة ، كانوا في يومهم … اصطف الحظ إلى جانبهم وتمكنوا من ترجمة كل الفرص التي أتيحت لهم بنجاعة ….. جيل ستكون له في ما بعد بصمته في التاريخ الكروي…. أليس هو الجيل نفسه الذي هزم اﻷلمان في مونديال 1982 ؟ أما نحن فكنا في ذلك اللقاء واليوم المشؤومين ، مفتقدين لنجاعتنا المعهودة ، رغم كثرة المحاولات التي سنحت لنا يومها .
لم نكن نستوعب ما يحدث…. عشنا لحظات كابوس مخيف ، بما في الكلمة من معنى ….لو تركونا ندبر أمورنا بهدوء ، لما بلغنا هذا السيناريو المرعب … الهزيمة واردة ، لكن بهذه الحصة وهذا الشكل …. فبكل تأكيد ، لم تكن أبدا في الحسبان .
ذهب البعض إلى أننا انهزمنا لأن المدرب كليزو يرهقنا خلال الحصص التدريبية ، ممتطيا صهوة حصانه….للأمانة والتاريخ ، هذا الادعاء مجانب للصواب ، فالمدرب ظل يدبر أمر الحصص التدريبية بشكل علمي، ولا يقحم أي لاعب في التجمعات إلا بعد إخضاعه لفحص طبي دقيق.
الهزيمة نزلت علينا مثل زلزال مدمر ، وكان من الطبيعي أن تعقبها تبعات ، حيث أمر الملك الحسن الثاني بحل المكتب الجامعي ، الذي كان يرأسه آنذاك الكولونيل المهدي بلمجدوب ، أحد مهندسي الظفر بالكأس القارية ، تزامنا مع فتح تحقيق دقيق حول مسببات الخسارة ، ليعهد للجنة مؤقتة بديلة بالإشراف على مباراة الإياب بالجزائر التي دارت في أجواء ممطرة وبتشكيلة تختلف كثيرا عن التركيبة التي خاضت مباراة الدار البيضاء .
انهزم الشباب – المنتهون لتوهم من التزام متوسطيات سبليت – في لقاء العودة بالجزائر بثلاثية لدون رد ، لكنهم وجدوا أنفسهم يؤسسون لمنتخب بديل ، يؤرخ لميلاد أسماء حملت المشعل من بعدنا من قبيل حارس المرمى بادو الزاكي والتيمومي وبودربالة وآخرين ، نجحوا في العام الموالي رفقة المدربين احميدوش والمرحوم جبران في احتلال المرتبة الثالثة في كأس أمم إفريقيا الملتئمة بنيجيريا ، وبعدها نالوا ذهبية الألعاب المتوسطية لعام 1983 بالدار البيضاء ، بفضل ثلاثيتهم في مرمى النظير التركي .
حين مغادرتنا الملعب في اتجاه الفندق ، فوجئت بالمدرب كليزو يجهش بالبكاء أسفا على ما حدث ….حملنا مسؤولية ما حدث لكوننا ، حسب زعمه ، لم نقدر الرهان حق قدره . ناسيا أن ظروفا متداخلة صنعت كذا نتيجة …. ، وأنه من يتحمل المسؤولية بمغادرته الفريق في عز التركيز ، وعدم اللحاق بنا إلى الملعب إلا دقائق معدودات قبل الانطلاقة ….
نتلمس للمسكين العذر ….ربما كان يدرك أنها نهاية إشرافه على منتخب قرر في أدق تفاصيله لسنوات عديدة ، قبل أن يجد نفسه في الزاوية الضيقة ، يحملونه ما لا طاقة له به.
مباشرة بعد هزيمة تاسع دجنبر 1979 ، تفرقت بنا السبل ، وغاب عنا فضاء المنتخب الذي ظل يجمعنا لسنوات …. وفيما ظل ارتباطنا لاعبين متواصلا ، كان ذاك التاريخ المشؤوم آخر عهدي بمشاهدة المدرب كليزو الذي لم تنفعه تفسيراته المسهبة في تحديد الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة في تفادي غضبة الملك الراحل والمحيط القريب منه .
علمت في ما بعد أن كليزو أصيب بنوبة قلبية ، فرضت نقله على وجه الاستعجال إلى فرنسا ، ليخضع هناك لعملية جراحية ، قيل إن الملك الراحل تكفل بمصاريفها كاملة ، أعقبتها فترة نقاهة طويلة . اٌقام هناك لمدة عامين ، قبل أن يقفل عائدا إلى المغرب على كرسي متحرك ، أسير وحدته وسكون جدران منزله الموجود بقرب ملعب البريد بالرباط.
لم يحتمل المسكين هذه النهاية الحزينة ، وضغط الشارع ، ونظرات المسؤولين . فقد قضى ما تبقى من عمره معاقا، محاطا فقط – عكس سنوات المجد – برعاية زوجته الفرنسية وابنيه فيليب وكارولين، مقبلا كل أسبوع على المركز الطبي التابع لمركب الجيش الملكي. كما كان طيلة فترة مرضه الطويلة ، يتقاضى راتبا شهريا من المصالح المختصة للقوات المسلحة الملكية …..وقذ ظل على هذه الحال ، إلى أن وافته المنية بالرباط يوم 20 فبراير 2007 ، حاملا معه كمدا وهما كالجبال ، بعدما تسبب الجزائريون في قتله ، رغم أنه رأى النور بمدينتهم وهران. علمونا في الصغر بأن الضغط يولد الانفجار ، وأجد نفسي وأنا استعيد شريط هذه المباراة الاستثنائية في كل شيء أحور بعضا من تشكيل القولة ومكوناتها لأكتب ” الضغط يولد الانهيار”….لأننا لم نتذوق جراء هذه المباراة سوى المرارة، مرارة فرضت على بعض مكونات المنتخب التي لم تتحمل الضغط اعتزال الكرة ، فيما مدد البعض الآخر مع أنديته المحلية – وأنا واحد منهم – حيث استمرت صلتي بالميادين حتى عام