لا أعرف في الحقيقة، متى بدأت علاقة الشعر بالرسم، وهنا لا أريد أن أدخل في متاهات ميثولوجية، فشعوب العالم القديمة جلّها رسمت وكتبت الشعر، المصريون والعراقيون والفينيقيون والكنعانيون القدامى، وكذلك شعوب المايا والأزتيك الأوائل. ولأننا نعيش في الأزمنة الحديثة، فعوالم هذين الفنين متوفّرة لدينا، من خلال تماسّنا معها، ومن خلال اطلاعنا عليها، عبر القراءة الواقعية، والمُشاهدة الحية والملامسة المجسّدة باليد، والعين والروح أيضاً.
لعل علاقة الشعر بالرسم تبدو لي مرتبطة بالمتخيّل والإيحاء والإلهام ذاته، المكرّس في الرؤيا الفنية والجمالية، لكلا الفنّين، فهما يسعيان معاً إلى الموحيات والمقابسات والتئام الروحي، ذلك المتأتي من لحظات التجلّي والهيمنة، والولوغ في المجاهل، وصولاً إلى التجسيد المشخّص في اللون والكلمة. تتسع المقابسات بين الشعر والرسم، الرسّام يرسم قصيدته في لوحة، والشاعر يكتب لوحته في قصيدة، وقد أخذت العلاقة بينهما مدَيات زمنية طويلة، قادها الرسام والشاعر، المرتادَين معا غابات المتخيّل، والحقول الدلالية، بحثاً عن الأسرار، والدفائن الرؤيوية غير المكتشفة. ولنقف هنا، بالقرب من محطات الحداثة الأولى، بدءاً من عشرينيات القرن الفائت، لنستعيد تلك الوجوه الملونة، للفنانين وللشعراء، في كلّ من الأرصفة الباريسية، مروراً بأزقّة روما، وصالات لندن، وقاعات براغ وأمستردام ووارشو وموسكو، حتى نصل إلى أفقنا الحداثي، الفنّي والشعري في بغداد.
شهدت بغداد الخمسينيات صعوداً في اتجاه الستينيات والسبعينيات، علاقة وثقى بين الشاعر والرسام، ويمكننا الإشارة عبر هذا السياق، إلى المقاهي التي كانت تضم العديد من الشعراء والرسامين، مثل «مقهى البلدية» و»المقهى البرازيلية» و»المقهى السويسرية» و»مقهى البرلمان» و»مقهى الأعيان « و»مقهى حسن عجمي» و»مقهى الزهاوي» في بغداد. وكذلك كانت العلاقة تمتد وتتوزع بين المقاهي، والصالات الفنية والحانات وكافيهات الجامعات، مثل كافيه «أكاديمية الفنون الجميلة» و»كافيه» الجامعة المستنصرية «وكافيه» كلية الآداب وحدائقها الكبيرة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، استجاب الفنان جواد سليم، لنداء وخيالات وموحيات قصائد بلند الحيدري، فرسم له صورة غلاف الديوان الثالث 1957 «أغاني المدينة الميّتة». وجرياً على هذا السياق استجاب الشاعر سعدي يوسف لدلالات جدارية «ساحة الطيران» للفنان فائق حسن، فكتب ديوانه الشعري اللافت «تحت جدارية فائق حسن» في منتصف السبعينيات من القرن المنصرم.
إذن ثمة تواصل، وتداخل وتواشج بين الفنَّين الشعري والتشكيلي، فالحروفية التي تجلّت لدى الفنان شاكر حسن آل سعيد، كانت مشبعة بحروف الشعر والقصائد المشهورة لكبار الشعراء، نجد الى جانب هذا أدونيس وعمله مع الفنان ضياء العزاوي، ومع كمال بلاطة، ومنى السعودي، وينبغي أن لا ننسى في هذا المقام مجلتي «شعر» و»مواقف» اللبنانيتين، ونشرهما لتخطيطات لفنانين كبار في زمنهم، مرافقة للشعر المنشور، وهناك الكثير ممن استخدموا أعمال الفنانين جواد سليم، وفائق حسن، ورافع الناصري وضياء العزاوي، ومن ثم فيصل لعيبي وصلاح جياد ونعمان هادي وجبر علوان ويوسف الناصر كأغلفة لدواوين شعرية، وكذلك الفنان محمد سعيد الصكار، الذي استجاب لأشعار كاتب هذه السطور، عبر مختارات شعرية بالفرنسية، صدرت في باريس بعنوان «نزهة الكريستال» عن دار «لارمتان» الباريسية، تخللتها رسومات داخلية، موحية، مع لوحة معبّرة للغلاف.
والحق، أن الأجيال الأدبية الأجد، كانت أكثر ميلاً للتعاطي مع تخطيطات الفنانين، وتعمير أعمالهم بها، أو تتويج الغلاف، كعتبة للديوان ومضمونه بلوحة لفنان يحبّذه، أو يفضّله الشاعر دون غيره، أو بطبيعته يميل لأعمال أحد أصدقائه من الفنانين، فيسعى إلى وضع لوحة، تحمل قدْراً من الجاذبية لرسام صديق، ذي بصمة خاصة، وعبارة لونية مميزة. بعض الشعراء يتفق مع أحد أصدقائه من الرسامين، على رسم سكيتشات شاعرية، وتمثّلات تشكيلية، وتخطيطات حبرية لعمله الشعري، يحاكي رموز الديوان، وبعده الدلالي ونشاطه الخيالي.
ثمة تواصل، وتداخل وتواشج بين الفنَّين الشعري والتشكيلي، فالحروفية التي تجلّت لدى الفنان شاكر حسن آل سعيد، كانت مشبعة بحروف الشعر والقصائد المشهورة لكبار الشعراء.
هنا وقبل ختامي لهذه السطور، أود أن أتوقّف أمام أعمال الفنان يوسف الناصر، كونه يجسّد الحالة المتداخلة، بين الشعر والرسم. فهو فنان متمكّن ومقتدر في مشاغله اللونية، كدحت أصابعه، قرابة الخمسين عاماً في هذا المجال، ولا يزال حتى هذه اللحظة، يرسم ويخطط ويضع السكيتشات تلو السكيتشات، لا طلباً في شهرة فهو غنيّ عنها، ولا سعياً لمال أو لسِقْط ما، يعطيه هذا الثري أو ذاك، بل يقدّم ذلك كخدمة لإله الفنون، وقد قدّم هذه القرابين الفنية، على مرّ أيام وعقود من السنوات، وتحديداً منذ مطلع السبعينيات وحتى هذه اللحظة، لم تتوقف ريشة الفنان يوسف الناصر عن ممارسة اللون، وعلى نحو يومي، على القماش أو على الورق، بالألوان الزيتية أو بعوالم الحبر، وتحولات الكريلك ذي التموّج الانسيابي، الشعري، لكأنّ يوسف الناصر راهب يعيش في لوحة، يقتات على الألوان، والخيال الذي يمتح منه دائماً، خيال معطاء، متدفق، مذهبه الأفاق الشريدة، ومن هنا فهو ذلك الناسك، المستغرق في شؤونه الداخلية، وجروحه اللونية العميقة.
وبهذا فهو خير مجسّد لجيله، من الفنانين الزاهدين، فهو يرسم من أجل الفن فقط، من أجل المتعة الروحية، واللذة الجوانية، تلك التي تمور في قيعان معانيه الباطنية، فهو رسام من طراز خاص، لا يبيع لوحاته، فلوحاته ليست لمّاعة وصقيلة، ومحددة وهندسية، بل هو يرسم الهواء والضوء الداخلي، مجرى الضوء، يسري في عروقه، لينير عتمة المنفى الطويل، الذي عاشه بكل تقلباته، وأوجاعه، وفرحه القليل إلى حيث النزوات النزرة اليسيرة، أو يقف على «حافّة ضوء» متأملاً مصيره ومصير الآخرين، و»حافّة ضوء» هو عنوان «معرضه الأخير، الذي أقامه في إحدى صالات لندن، في آذار/مارس الماضي.
الفنان يوسف الناصر لم يتأثّر بمدرسة معيّنة، لكنه مخلص لأساتذته، مثل فائق حسن وكاظم حيدر اللذين تتلمذ على أيديهما في أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد، إنه يعرف المدارس الفنية، ويعرف تأثيرها في كل زاوية من العالم، يعرف السيريالية والطبيعية والمستقبلية، ويعرف رموزها وروادها، ويعرف معاني المدرسة الألمانية، لكنه يترك من كل هذه المدارس قدْراً ضئيلاً من الأثر الفني على عمله، وشغله وهواجسه وأحاسسيه وصنيعه الفني، فهو ليس فناناً مقلّداً، بل فنان مميز، له طريقته في التفكير اللوني، وفي أبعاد اللوحة وتصوراتها الدلالية، عابراً بلوحته الحقول التجريدية، والرمزية، والواقعية ليرسم في المآل ذاته، وما تقوله هذه الذات الحائرة، والمتعبة، والمهاجرة في التاريخ البشري للإنسانية.
يوسف الناصر فنان من جيلنا، يسير في اتجاه الفن الخالص، غير المزوّق والتجاري، فدائماً هناك سديم ما يعتري نصّه اللوني، وثمة اتشاح بالسواد، ودخان يبتلع أبعاد لوحته، المدروسة بإتقان، إنه دخان الروح، وهي تنظر لما يحيطها من خراب بشري، من حروب ودمار وتراجيديات، وكذلك هو الاتشاح بالرمادي يضعنا أمام أنفسنا، أمام دواخلنا، ليتحوّل الرماد هذا، إلى مرآة نرى من خلالها وعبرها أنفسنا، الحائرة أيضاً، أنفسنا الضائعة في عتمة الحروب والتقنيات الحديثة، والاستهلاك الذي بات يسلّع حتى الهواء، فالسواد هو سواد تاريخي وواقعي أيضاً، لكنه في المحصلة سواد فني صعب، ولا يُفسر، سواد يشبه كلاباً تسعى في الظلام خلف طفل، شارد ووحيد، في برية قاحلة ومعتمة.
شاعر عراقي