* نسرين سيد أحمد
في افتتاح الدورة الثانية والثمانين من مهرجان فينيسيا السينمائي (27 أغسطس/آب الجاري إلى 7 سبتمبر/أيلول)، عاد المخرج الإيطالي باولو سورينتينو ليقدّم عملاً بدا للوهلة الأولى غريباً عن أسلوبه المعتاد.
يطل سورينتينو، مخرج «الجمال العظيم» بفيلم متأمل رصين الإيقاع، فبعد أن أدخلنا في أروقة السلطة في الفاتيكان في مسلسله «البابا الشاب»، يعود سورينتينو لتناول السلطة السياسية من منظور أكثر تؤدة وروية، هذا المنظور يمكن الاستدلال عليه من عنوان الفيلم، وهو La Grazia بالإيطالية، أو كما يمكن ترجمته إلى «الرحمة والعفو». العنوان نفسه يستدعي طبقات من المعاني: فهو من جهة إحالة قانونية، إلى سلطة الرئيس في العفو عن السجناء، ومن جهة أخرى يحمل ظلاً دينياً، يذكّر بالرحمة الإلهية والصفح والمغفرة. بين هذين المعنيين ينسج سورينتينو حكاية رئيس إيطاليا في أيامه الأخيرة في السلطة، رغم أنه على رأس نظام الحكم في إيطاليا، إلا أنه لا يبدو لنا متكالباً على السلطة، بل نراه دوماً يرى في نفسه رجل قانون وقضاء، حيث أمضى جل حياته العملية في سلك القضاء وسن التشريعات.
الشخصية الرئيسية ماريانو دي سانتيس، يؤديها توني سيرفيلو في واحد من أكثر أدواره اقتصاداً وصلابة. سيرفيلو، رفيق سورينتينو في أفلام رئيسية مثل «إل ديفو» و»الجمال العظيم» و»تبعات الحب»، يعود هنا وقد اشتعل رأسه شيباً وتركت السنوات أثرها على وجهه المجهد. الرئيس أرمل منذ ثماني سنوات، يعيش في قصره الرئاسي بين الجدران العالية والطقوس اليومية، كمن ينتظر شيئاً لم يعد يأتي، يلقّبه مساعدوه بـ«الخرسانة المسلحة». اللقب يوحي بالثبات والقوة، لكنه في الفيلم يبدو كتشخيص لمرض: الخرسانة تفتقر إلى المرونة، ولا تغفر، ولا تحب. الرئيس في الحقيقة ليس حديدياً كما يوحي اللقب، بل هشّ في داخله، متآكل من الشكوك والذكريات. وما تبقّى له من فترة وجيزة في السلطة، ليس سوى انعكاس لمشهد داخلي أكثر قسوة: إدراكه أن النهاية باتت قريبة.
سورينتينو يضع بطله أمام سلسلة من الاختبارات، كأنها مرايا لقلقه. الاختبار الأول، قانون للموت الرحيم، يطلب البرلمان منه المصادقة عليه. يتردّد الرئيس، ممزقاً بين رحمته تجاه المرضى وإيمانه الكاثوليكي الذي يحرّمه. ويقول إنه إذا رفض التصديق عليه سيُتهم بأنه يفضل تعذيب البشر، وإذا وافق عليه، سيتهم بأنه قاتل. البابا نفسه يتدخل ويطلب منه التراجع، لكنه لا يجد راحة في أي قرار.
الامتحان الثاني، هو سلسلة طلبات للعفو، بينها حالة امرأة قتلت زوجها الذي أوسعها تعنيفا وتعذيباً، ورجل أنهى حياة زوجته المصابة بالخرف. هنا يعود العنوان ليكتسب معناه المباشر: «الرحمة والعفو». لكن السؤال يظل مطروحاً: هل يمكن للرئيس أن يمنح الغفران بينما هو عاجز عن منحه لنفسه؟
الامتحان الثالث، والأكثر شخصية، ينهش روحه: الشك في خيانة زوجته الراحلة قبل أربعين عاماً، رغم مرور الزمن، لم يتوقف عن البحث عن إجابة، لم يتوقف عن التساؤل الذي ينهش روحه.
بين هذه التحديات يتجلّى صمت الرئيس، أداء سيرفيلو هنا استثنائي، ليس لأنه يقدّم خطاباً مؤثراً أو انفعالاً جارفاً، بل لأنه يحوّل الجمود نفسه إلى لغة، في عينيه نقرأ انكساراً بلا قرار، وفي ملامحه قسوة مشوبة بظلّ حزن عميق. لكن سورينتينو لا يترك بطله أسير الجدية المطلقة. كعادته يضيف مسحات سريالية، تفاصيل صغيرة تذكّرنا بأننا داخل عالمه. الرئيس يستمع في خلواته إلى موسيقى الراب، يحرّك شفتيه بكلماتها، كأنه يحاول استعارة حياة أخرى. حارسه الشخصي يهرّب له السجائر الممنوعة، ليبقى له طقس صغير من العصيان. ومشهد غريب يجمعه بمحررة مجلة «فوغ» الشابة الجميلة التي تبدي إعجابها به، فيكشف عن هشاشته المختبئة خلف صرامة رجل الدولة. الأبنة دوروتيا (آنا فيرزتي) تحضر كامتداد لصرامته. محامية شابة، تدير يومياته بدقة، تفرض عليه نظاماً غذائياً بلا نكهة، وتراقب صحته بعين حادة. العلاقة بينهما باردة، أقرب إلى شراكة عمل منها إلى دفء عائلي. هما وجهان لعائلة اختارت الصمت بدل المواجهة، والانضباط بدل الاعتراف بالجرح. في صمت هذا البيت تتجلى عزلة الرئيس بأوضح صورها. الفيلم لا يكتفي بسرد داخلي، بل يترجم الحيرة إلى صور مشهدية شاعرية.
في واحدة من أقوى لحظاته، يقف الرئيس في باحة قصره ينتظر ضيفه، رئيس البرتغال، المطر يهطل بغزارة، الريح تعصف بالسجادة الحمراء، بينما يبقى الرئيس صامتاً. الصورة تتجاوز كونها تفصيلاً بروتوكولياً لتصبح رمزاً لسخرية الطبيعة من الطقوس الرسمية. وفي مشهد آخر، يجلس بين قدامى المحاربين في مأدبة عسكرية، وفجأة ينخرط في الغناء معهم. لحظة تبدو خفيفة، لكنها تكشف عطشه لانتماء إنساني عادي بعيد عن برودة القصر. كأن الغناء الجماعي يمنحه ما لم تمنحه سنوات السلطة: شعوراً بالدفء. سورينتينو لا ينسى أن يستحضر بهاء روما. الكاميرا تتجوّل في الممرات الرخامية والقباب العالية، لتذكّرنا بأن روما، العاصمة التي تعكس تاريخ السلطة، تظل شاهدة على هشاشة الإنسان. البناء المعماري يبدو خالداً، بينما الرئيس الفرد يتآكل. المفارقة بين ثبات الحجر وتصدّع الروح البشرية هي جوهر رؤية الفيلم. ورغم الجدية، لا يخلو الفيلم من لمسة عاطفية في نهايته. قد يراها البعض زائدة أو مصطنعة، لكن حتى في هذا الإفراط هناك جمال مكسور. كأن المخرج أراد أن يترك لبطلِه فرصة أخيرة للعثور على بصيص ضوء، حتى لو كان وهماً.
في جوهره، الفيلم ليس عن رئيس إيطاليا فحسب، إنه عن كل إنسان يواجه لحظة إدراك أن السلطة، أيّاً كانت، عاجزة أمام الماضي والذاكرة والموت. الرجل الذي قضى عمره يصدر الأحكام يكتشف أن أعظم حكم لم يجرؤ على إصداره هو الغفران لنفسه. هنا يتجلّى العنوان في معناه الكامل: «الرحمة والعفو». ليس بصفتهما صلاحية دستورية، بل باعتبارهما جوهر التجربة الإنسانية.















