إن المشهد الصحافي في تبدل مستمر، بفضل ظهور تقنيات ووسائل تعيد تنظيم العلاقة بين وسائط الإعلام وجمهوره. هو تبدل كامل للاتجاه، يستحيل على الإعلاميين النجاة من آثار تغيراته الكاسحة. الصحافة الرقمية جاءت بوصفها امتدادا للثورة التكنولوجية، و انطلقت أساسا من الصحافة في شكلها التقليدي، مع حدوث تحولات جوهرية على مستوى أوعية عرض المواد الإعلامية المنتَجة وأنماط تلقيها، وكذا على مستوى المضمون وطرائق جمع المعلومات ومعالجتها. لتشق الصحافة الرقمية بذلك طريقها نحو خلق بيئة جديدة للمهنة؛ تتيح المجال أمام سهولة البحث عن الأخبار والوصول إلى المحتوى الصحافي، في ظل تعدد كبير لمصادر المعلومات الإعلامية وآليات نقلها، مقابل طلب مرتفع واستهلاك واسع، مع إمكانية التحديث الدائم للمحتوى، وتمكين الجمهور من التفاعل وإبداء الرأي. إنه تغير كبير في كثيرٍ من معالم مهنةٍ ستظل سماتها ومهاراتها الأساسية ضرورية رغم الأدوات الجديدة.
جعلت الرقمنة الصحافي مُلِماًّ بالوسائل الفعالة لممارسة صحافية تستطيع الوصول لجمهور أكثر تنوعا، وتحقق لعمله انتشارا أكبر؛ فالرواية الرقمية تمكن من فهم أفضل للخبر، بفضل الشهادات الشفهية، والصور الثابتة والمتحركة. هي رواية تسمح بـ “الاطلاع البصري الذي يتحول إلى معرفة خبرية”. لذا مكنت الثورة التكنولوجية من خلق منصة تدفق حر للأخبار، وفتح المجال أمام فاعلين كثر للمشاركة في الصناعة الخبرية، بشكل أثر في العمل الصحافي ومنظومة الأجناس الصحافية.
ويرى عبد الوهاب الرامي، الأستاذ بالمعهد العالي للإعلام والاتصال في الرباط، أن الأجناس الصحافية تلبي بالأساس حاجات إخبارية مرتبطة بنقل المعلومة وشرحها والتعليق وإبداء الرأي من جهة، وبناء المعرفة من جهة أخرى. ويوضح في تصريح للجريدة أنه “حينما يتم تعريف منظومة الأجناس الصحافية في مجال الصحافة الرقمية، فمبادئها لن تتغير، على اعتبار أنها تستجيب لحاجيات التواصل الإنساني، مع وجود بعض التنويعات المرتبطة باستخداماتها على المستوى الرقمي، ما يدفعنا نحو تبني بعض الأجناس الهجينة، التي لا يمكن أن ترقى إلى ما تم سنه منذ سنوات عديدة على مستوى الممارسة الإعلامية”.
كما يؤكد المتحدث، أن كثيرا من الأجناس الصحافية استسهلت، معتبرا أن العديد من المنابر الرقمية اليوم تسيء للأجناس الصحافية؛ إما لعدم ضبط قواعدها، أو لأن الجمهور المستهلك لم تعد له متطلبات مرتبطة بالصرامة والاكتمال والوضوح والدقة.
إن صناعة الخبر لم تكن أبدا في حال أفضل مما هي عليه اليوم، في ظل التبدل الكبير لتكنولوجيا الاتصال، وما فرضته الحدود المفتوحة من إغناء لمصادر الأخبار، وإعادة ترتيب أدوار مختلف المتدخلين في إنتاج المادة الإعلامية، قصد تمكن الإعلام المهني من الحفاظ على دوره، باعتباره مصدرا للأخبار الموثوقة، ومواكبة عمله كأداة ديمقراطية ناجحة، في وسط يشهد منافسة شديدة، وقلة في موازنات الإعلان، ووجود جمهور مجزأ.
افتراضا، تسعى الثورة الرقمية في الإعلام والاتصال إلى تسهيل العمل الصحافي، وتوحيد أساسياته ومنظومة أجناسه التي، حسب تعبير الأستاذ الرامي، ستصبح ملكا مشاعا لدى الصحافيين، ولدى الجمهور أيضا، نظرا لإمكانية مشاركته في المحتوى الإعلامي عبر آلية التفاعل. ويقر بإمكانية انتشار الأجناس الصحافية وتعميم المعرفة المرتبطة بها على المستوى الأفقي الشامل، دون التمكن منها بشكل يجعلها محافظة على القواعد الأساسية التي تمنحها القوة والنجاعة.
والصحافة الجديدة هي صحافة ملخصات، نظرا لقصر نصوصها، وتعويض المقروء فيها بالمرئي. وكثيرا ما يقال إنها تجنح لاعتماد جنس الحوار بشكل أكبر، كصيغة أكثر تحررا لإنتاج الأخبار، طرح ينفيه الأستاذ الرامي قائلا: “ما أظن أن الصحافة الرقمية عبر العالم تعتمد هذا الجنس كمرتكز رئيس، لأننا في حاجة مستمرة إلى التحليل والاستطلاع والتحقيق والبورتريه، دون إغفال الأجناس الخبرية، وذلك بغية الإمساك بالواقع وتمظهراته”.
بيد أن صحافيي العالم لا زالوا يفضلون الخبر الوطني عن الخبر الدولي، رغم أن الإعلام الجديد أزال مفهوم الجمهور المتلقي، وأخرج فعل الاتصال من الحدود الوطنية، متيحا إمكانية الاتصال العالمي. ومع تعدد الصفحات الإعلامية وكثرتها، صعب على الجمهور التمييز بين منصات صحافية مهنية رصينة، وأخرى تمارس عملا دعائيا ذا غايات تجارية بحتة، مغلفة بلبوس صحافي. لذا أضحى من الضروري وضع قواعد أخلاقية جديدة، تتوافق والطبيعة المتغيرة لهذه المنصات، بطريقة تضمن حماية الممارسة الصحافية لمبادئها الأساسية.
كما أصبح المحررون ومنتجو الأخبار، يفتقرون إلى الأدوات المعرفية التي تسمح لهم بالتعامل مع المعضلات الأخلاقية الجديدة. ومع انتشار منصات التواصل الاجتماعي، بدأ كثير من الصحافيين الاعتماد، بشكل كبير، في صياغة المضامين الإعلامية، على ما ينتجه رواد هذه المنصات من محتوى. ناهيك عن استحداثهم نوعا جديدا من مواد صحافية تختص، حصراً، في رصد محتوى الساحة الافتراضية. لكن، هل يستطيع الصحافي أن يقيم جدارا بينه وبين متابعته لاهتمامات المبحرين في العالم الرقمي؟
إن مفهوم الصحافة مرتبط بالانتقاء الميداني لعناصر الخبر، ثم بترتيبها من الأهم إلى المهم فالأقل أهمية. لذا جودة المنتوج الصحافي تتحدد انطلاقا من معيارين اثنين هما: إدراك الأهمية والتشبع بأخلاقيات المهنة. أمران يغيبان تماما عند من يسمى “المواطن الصحافي”، لتعيش منظومة الأجناس الصحافية إذا “وضعا بئيسا”، حسب قول الرامي.
ويضيف الخبير في الإعلام والاتصال، ادريس العيساوي، في تصريح لـنا أن “مشاركة المواطن في صناعة الخبر مسألة تطرح إشكالا كبيرا فيما يخص تدفق الأخبار على حجرات التحرير، والتعامل مع الحجم الكبير للمعلومات بالحيطة والحذر اللازمين”، كما يؤكد أن صحافة المواطن هي صحافة قرب وحقيقة والتزام، رغم ما يشوبها من اختلالات عديدة، تنعكس سلبا على مرتكزات المهنة.
وعلى غرار باقي المستخدمين، فالصحافي يقوم أحيانا بممارسة تحيزاته الشخصية خلال تصفحه لمنصات التواصل الاجتماعي. أمر يدفعه إلى الدخول إكراها في “غرفة صدى”، تحول بينه وبين التعرف على تفضيلات الجمهور المختلفة، وبالتالي عدم قدرته على إعداد قصص صحافية تعكس، حقيقةً، واقع تلك الاهتمامات.
على المؤسسات الصحافية إذن، العمل للتأقلم مع البيئة الإعلامية الجديدة، مستخلصة أقصى الفوائد الممكنة من الإعلام الرقمي، دون إلحاق الضرر بالحريات المدنية. الإعلام التفاعلي متعدد الوسائط يفتح الباب، على مصراعيه، أمام تطور هام يمس ثقافة الصحافة، ويجبر المواطنين على الإدلاء برأيهم، والمشاركة في صناعة المحتوى، ومعارضة التيار الغالب في المواضع الرقمية. لذا لن يتحقق النهوض مجددا، إلا عندما تصبح هذه المؤسسات قادرة على غربلة ما يصادفها من كم هائل للمعطيات، بشكل ينأى بها عن الإساءة للممارسة الإعلامية وكذا الأجناس الصحافية، والمحافظة على قيمتها كمصدر أوَّلَ للمعلومات، في عصر أضحت فيه الحقائق مؤقتة.