س – نتحدث اليوم عن مفهوم جديد أصبح رائجا في العالم العربي و المغاربي ولكنه ينبثق من قلب البحث العلمي المعاصر حول عدد من اشكاليات التربية و اكتساب المعرفة في زمن الديجتال.
موضوع لقائنا هو التعليم عن بعد.
دكتور مهدي عامري، بصفتكم أستاذا باحثا في قضايا التواصل الرقمي و خبير تنمية ذاتية و صاحب خبرة طويلة في التدريس الجامعي الحضوري و الرقمي – تزيد عن 12 عاما – كيف يمكن أن تقربونا اليوم من مفهوم التعليم عن بعد، وكيف تطورت هذه المنظومة في الأعوام الثلاثة الأخيرة في العالم – في ظل وباء كورونا- لتصبح قائمة الذات، و لتصبح أيضا منجما لا ينضب من الإمكانيات و الفرص الواعدة ؟
ج – التعليم عن بعد ليس مفهوما جديدا كما يخيل للبعض، فإذا عدنا إلى التاريخ المعاصر نجد أن التعليم كانت تحضر فيه دائما ثنائية القرب و البعد، فالرحالة والعلماء الذين جابوا الكرة الأرضية شرقا و غربا و شمالا و جنوبا كانوا دائما ما يبتعدون عن أوطانهم و يشدون الرحال الى اصقاع الأرض بهدف تحصيل العلم، و أحيانا كانوا يعودون ادراجهم، و في احيان كثيرة أخرى كانوا يستقرون في اوطانهم الجديدة.
هذا، و لا يجب أن نتوهم أن التعليم عن بعد رأى النور في السنوات أو الأشهر الأخيرة، لأنه بكل بساطة ظهر في الغرب و خاصة في أمريكا و كندا منذ ثمانينيات القرن العشرين الماضي.
و عندما خرج الى النور في بلاد الغرب هذا النمط من التعليم، كانت المواد التعليمية المختلفة ترسل على شكل كتب أو شرائط فيديو أو اوديو للطلاب عبر البريد، و هذا ما يسمى التعليم بالمراسلة ، و كان الطلاب يرسلون واجباتهم بالطريقة نفسها…
يوفر التعليم عن بعد مزايا عظيمة جدا، فهو يقلص زمن التعلم و المجهود المبذول من طرف الاستاذ في عملية تحضير الدروس، كما أنه يعفي المتعلمين و المدرسين على حد السواء من التنقل من مدينة إلى مدينة أخرى لإعطاء المحاضرات و الدروس، كما أن عملية توزيع المحتوى المعرفي، تتم في غاية السرعة وبشكل لحظي، إلى جانب عدة مزايا أخرى.
س – دكتور مهدي عامري، ارتبط التعليم عن بعد في العالم بظهور جائحة كورونا و خاصة بموجات تفشيها و تم اعتماد هذه التقنية كخطة بديلة لمواكبة الدروس في زمن اشتداد الأزمة الصحية، بدليل أننا خلال هذه الاسابيع الأخيرة في المغرب و في أغلب دول العالم نشهد الرجوع القوي الى التعليم الحضوري، و هذه نتيجة طبيعية لتراجع الوباء العالمي.
د. عامري، إلى أي حد يحظى التعليم عن بعد بالقبول في الاوساط التعليمية بالمغرب، سواء في ما يخص التلاميذ أو الأساتذة ؟
ج – إن الظروف الاستثنائية للجائحة العالمية دفعت بدول شمال افريقيا و الشرق الأوسط التي ننتمي اليها ثقافيا و تاريخيا نحو التحول الرقمي. أتمنى أن نربح معركة الرقمنة الكاملة و الشاملة للتعليم في وطننا العربي بل في العالم اجمع. إن الأمنيات لا تكفي – حتى أكون معتدلا في كلامي، و ما يلزمنا هو تبني الدولة لرهان تجويد التعليم، مع تجنيد الإمكانيات المادية و التقنية و الكوادر المهنية عالية التأهيل لربح رهان الرقمنة.
ان المعركة ليست سهلة بالمرة، و نجاحها يتوقف أولا على ثورة فكرية تقودها الدولة باقتدار و تنزل بها إلى أدنى طبقات المجتمع.
دعوني اصف هذه المعركة بمشروع ديمقراطية المعرفة و العدالة المجالية في الولوج إلى الموارد الرقمية..
س – في هذا السياق الدقيق، كيف ترون و تقيمون، دكتور مهدي عامري، المرحلة التي فرضت على الدول العربية أن تنحو نحو التعليم عن بعد خاصة وأن الدول العربية تفتقر الى البنية الرقمية الحقيقة من أجل التعاطي مع هذا المفهوم الجديد، كيف نقيم هذه المرحلة وما هي البدائل التي يمكن أن تطور هذا المفهوم الجديد ؟
ج – تريدين مني أن أقيم هذه المرحلة ؟ يجب أن نشير أولا الى الفجوة الرقمية و المعرفية، بين من يملك وبين من لا يملك الأنترنيت، فإذا رجعنا الى الأوضاع المتعلقة بإتمام السيرورة البيداغوجية التي عشناها جميعا أساتذة باحثين و طلابا و تلاميذا في جميع المراحل الدراسية، فاننا سوف نقف على عدد هائل من الصعوبات الجمة التي عاشها أبناؤنا و شبابنا في المغرب و في دول العالم العربي بل في جميع الدول السائرة في طريق النمو، و التي تعاني أكثر من الدول الغنية من مشكل الفجوة المعرفية.
في المغرب هناك أكثر من 50 بالمائة من السكان يقطنون في البوادي، لنتخيل اذا حجم المعاناة لهذه الشريحة من السكان التي تقطن البوادي و الجبال و القفار… و كلها مجالات جغرافية يصعب فيها الارتباط الجيد بالأنترنيت، و أحيانا ينعدم.
ساعطيكم رقما صادما مفاده أن أكثر من 309 الف تلميذ مغربي تركوا الى حدود مستهل 2021 المدراس، و هذه نتيجة أساسية من نتائج الازمة الصحية العالمية و تداعياتها الخطيرة على التحصيل الدراسي ، هذا يعني أنهم أصبحوا بين عشية و ضحاها ضحايا للهدر المدرسي، الناجم بدوره أساسا عن غياب التوزيع العادل للموارد التعليمية الرقمية.
س – فهمنا من كلامكم، استاذنا الكريم، أن التعليم عن بعد يتطلب مجموعة من الإمكانيات المادية و اللوجستية و التقنية التي في غيابها يستحيل الحديث عن تعليم الكتروني حقيقي بالحد الادنى من المواصفات الواجب توفرها.
سؤالي لكم الآن هو كيف يمكننا إنقاذ الفئات الهشة من اخطار الهدر المدرسي الذي اشرتم اليه قبل قليل في معرض حديثكم ؟
ج – ان التعليم عن بعد هو الحاضر و المستقبل، و هو من مكاسب الزمن الوبائي العابر للقارات و الثقافات.
كلنا نحزن للهدر المدرسي الذي راح ضحيته آلاف الأطفال في مغربنا الحبيب، و حزننا يتجاوز النطاق الجغرافي المحدود للمغرب. نحن متأسفون للهدر المدرسي لجميع اطفال العالم في زمن الوباء أو خارجه…
والآن، دعوني اضف فكرة في غاية الأهمية: يقع على عاتق وزارة التعليم في المغرب تدريب النشء وجمهور الأساتذة على مهارات التعليم عن بعد، لان هذا النمط من التعليم هو الحاضر و المستقبل، شئنا أم ابينا، كما اسلفت قبل قليل…
هناك من يعتقد أن الانتقال من محاضرة كلاسيكية يلقيها أستاذ محاضر في مدرج كلاسيكي امام جمهور ما إلى محاضرة رقمية هو انتقال فقط من العالم غير الرقمي الى العالم الرقمي، والحال أن هذا الانتقال هو انتقال من فلسفة الى فلسفة أخرى، ومن بيئة ذات عدة خصوصيات و مواصفات وتحديات الى بيئة أخرى.
ماذا يعني ذلك؟
عندما تنتقل من محاضرة كلاسيكية حضورية الى محاضرة عن بعد، فهذه الأخيرة بحكم الديجيتال و اكراهاته و فلسفته، يجب ان تكون في مظهرها و جوهرها موسومة بالسرعة و الاختصار و الايجاز و التفاعلية، ناهيك عن الاستخدام الكثيف للمؤثرات البصرية.
دعوني اكرر فكرة بالغة الأهمية؛ الديجيتال فلسفة وأسلوب حياة قبل أن يكون أداة وتقنية من التقنيات.
على صعيد آخر، هناك من يعتقد أن التكنولوجيا تقدم حلولا سهلة، وهذا صحيح؛ ولكنها في الوقت نفسه تزيد من حجم المسؤولية ومن حجم المجهود الذي ينبغي أن يبذله على السواء الأستاذ و المتعلم، ان هذه المسؤولية المضاعفة معناها واجب التحيين المستمر للدروس، مع ضرورة ربطها بمستجدات العصر و المهارات الأساسية للحياة.