النقاش الذي تعرفه الساحة المغربية حول مسلسل “فتح الأندلس” يطرح من جديد موضوع الدراما بين الدين والتاريخ الوطني، كما يطرح العلاقة بين الرؤية المشرقية لتاريخ المغرب، وبين نظرة المغاربة لأنفسهم ولماضيهم.
عندما يتعلق الأمر بأحداث لها علاقة بتاريخ الإسلام، هل يتوجب على الفنانين ومنتجي الدراما توظيف عناصر التاريخ واستلهامها بموضوعية، حسب الوثائق المتوفرة، أم مراعاة الإيديولوجيا الرسمية وعواطف المؤمنين والصورة المثالية التي يحتفظون بها عن بعض الشخصيات التاريخية، وبالتالي انتقاء ما ينبغي عرضه وما لا ينبغي التطرق إليه؟
ظلت الدراما العربية على مدى القرن المنصرم تحاول إنتاج أفلام تاريخية ودينية في خضوع تام للسلطات الدينية والسياسية، حيث تحال مشاريع الأعمال من هذا النوع على مؤسسة “الأزهر” أو مجالس “العلماء” الرسمية لتقول فيها كلمتها قبل أن يتمّ تصويرها، ثم تتعرض بعد انتهاء التصوير لرقابة أخرى عبر مشاهدة الأعمال، حيث يعمل مقصّ الرقيب الديني على حذف المشاهد التي لا تقبلها الحساسية السّنية الأورثوذوكسية، التي تعمل كل ما في وسعها للحفاظ على الرواية الرسمية حول المعتقد الديني ورموزه، ومن خلال ذلك على المعطيات المتعلقة بتاريخ الإسلام وبالشخصيات الإسلامية بما فيها السياسية والعسكرية. بل إن أحد الكتاب وهو يُعدّد شروط الدراما في علاقتها بتاريخ الإسلام حسب مشايخ الأزهر كتب يقول إن الشرط الأول “أن يكون الهدف من وراء العمل هدفا دينيا ابتغاء رضوان الله، وإظهار الشخصيات الإسلامية على أفضل صورة“.
وهذا ما يفسر أنّ من بين الثوابت التي حافظت عليها الدراما العربية الحرص على تجنب إيراد الأحداث التي تعتبر سلبية رغم وقوعها، حيث يتمّ اعتماد نظرة طهرانية فوق التاريخ، تقوم على الانتقائية ونظرة التقديس.
ويرجع هذا الاختيار إلى أن السلطات الدينية تعتبر هذه الدراما ملحقة ببرنامجها في الوعظ والإرشاد الديني، أي أنها تجد فيها وسيلة من وسائل خدمة الدين، وليس عملا فنيا له رؤيته وأهدافه الخاصة.
أما الدراما التركية، فبفضل مسلسل العلمنة الذي امتدّ عقودا طويلة، فقد كانت أكثر شجاعة وقوة، وأكثر قربا من المعايير الدولية في إنتاجها لمسلسل “القرن العظيم” الذي سمّي في نسخته المُعرّبة “حريم السلطان”، والذي يُعدّ أضخم إنتاج تلفزيوني تركي على الإطلاق، كما صادف نجاحا منقطع النظير سواء على مستوى نسبة المشاهدة المرتفعة أو المداخيل الخيالية التي حققها. إلا أنه لم يسلم بدوره من هجوم قِوى التقليد ممثلة في النواب البرلمانيين لحزب “العدالة والتنمية” التركي، الذين نجحوا في إيقاف إنتاجه بسبب كونه حسب تقديرهم “يشوه تاريخ الخلافة العثمانية” و”يسيء إلى شخصية السلطان سليمان القانوني”. بينما الحقيقة أنه لا شيء يُشوه صورة العثمانيين غير ما ارتكبوه حقا من فظائع في تاريخهم.
مع المسلسل الحالي الذي يحمل إسم “فتح الأندلس”، نجدنا أمام إشكاليات جمالية وتقنية ولكن أيضا إزاء معضلات تاريخية وإيديولوجية لا تخفى، فبدءا بالعنوان، يبدو أن الهدف ليس هو تقديم أحداث تاريخية بل ممارسة نوع من الدعاية الإيديولوجية لرواية تاريخية عاطفية، بعيدة عن الواقع التاريخي كما تذكره النصوص والوثائق والمصادر الكبرى، فكما تدلّ على ذلك كلمة “فتح” الدينية لا يتعلق الأمر بإيراد وقائع الغزو العسكري لشبه الجزيرة الإيبيرية بهدف توسّع الأمبراطوية الأموية، الذي تم في نهاية القرن الهجري الأول (92 هجرية)، بقدر ما يتعلق باستعراض شخصيات شبه مقدسة قامت بعمل نبيل هو غزو رقعة من أوروبا.
ونستطيع منذ الآن إيراد المعطيات التاريخية التالية باختصار شديد، كما وردت في كثير من المصادر التاريخية، ليعمل القارئ المهتم على فحص مدى موضوعية القراءة المعتمدة من طرف منتجي هذا العمل الدرامي المشرقي:
1) أن الفكر الفقهي الإسلامي قد رسّخ عبر العصور فكرة ربط الغزوات العسكرية بالعقيدة، وجعل “الجهاد” ركنا من أركان الدين، مما أدى إلى النظر إلى الأحداث التاريخية ذات الصلة بوقائع الغزو والسبي بمنظور عاطفي وجداني، واعتبارها “أمجادا”، وكذا النظر إلى الشخصيات العسكرية العربية بنظرة التقديس التي تغضّ الطرف عن عيوبها.
2) أن الغزو العسكري للأندلس تم بقرار عربي من الدولة الأموية التي اعتمدت العصبية القبلية العربية، وجعلت لبّ اهتمامها جلب الثروات والرقيق من أقاصي الأرض وتوسيع رقعة الحكم. وأن المسحة الدينية الوجدانية التي تُضفى على هذه الأحداث باستعمال كلمة “فتح” كان هدفها إخفاء طابعها العنيف وأهدافها الدنيوية وتجاوزاتها اللاإنسانية التي ذكرها المؤرخون المسلمون أنفسهم بموضوعية.
3) أن ما تقوم به بعض القراءات من محاولة تبرئة الخلافة الأموية بإسناد وقائع الظلم إلى الولاة والقادة العسكريين بشمال إفريقيا، هو تحريف تكذبه المراسلات والوثائق التي نشرها مؤرخون مسلمون أنفسهم، والتي تدلّ على أن ما حدث من ظلم وجور كان قرارا مركزيا لدولة الخلافة اتبعه الولاة، (باستثناء فترة حكم الخليفة عمر بن عبد العزيز التي لم تدم أكثر من عامين، حيث قتله الأمويون بالسمّ بسبب رفضه لسياستهم القائمة على الجُور في طلب الغنائم والسبايا). وقد كتب الدكتور محمد الطالبي في ذلك يقول:”ذلك أن سبيل الإسلام وسبيل مصالح الخلفاء الدنيوية وشهواتهم كانا متعارضين متناقضين، فكلما أسلم مسلم إلا ونقص دخل الخزينة بمقدار، حتى أن بعضهم عاب على عمر بن عبد العزيز سياسته”. محمد الطالبي ، الدولة الأغلبية، ص:98.
4) أن السبب الرئيسي للاتجاه في الغزو شمالا نحو أوروبا هو وجود الصحراء الكبرى التي شكلت حاجزا جغرافيا واسعا أمام جيوش الأمويين عاقت توغلهم في مجاهل إفريقيا السوداء، إضافة إلى قصر المسافة بين ضفتي طنجة والجزيرة الخضراء، ومعرفة الأمازيغ المغاربة بشبه الجزيرة الإيبيرية بحكم تعاملاتهم الاقتصادية معها، دون أن ننسى الأخبار التي كانت ترد على العرب حول “كنوز الذهب والفضة” لدى ملوك وكنائس القوط.
5) أن عملية الغزو كانت مستحيلة في غياب عاملين اثنين: المساعدة الاستراتيجية الحاسمة التي قدمها “يُليان” الحاكم المسيحي لطنجة سواء من حيث المعلومات أو السفن والسلاح (سماه ليفي بروفنسال “يولبان” ورجح أن يكون أمازيغيا مسيحيا)، ثم الانقسام الكبير في صفوف “القوط” وصراعاتهم الداخلية التي أضعفتهم وجعلت طرفا منهم يغدر بالقائد “لذريق” وينضمّ للمسلمين خلال المعركة.
6) رغم أن قرار غزو الأندلس كان عربيا أمويا إلا أن تنفيذه كان على يد حوالي 12 ألف من الأمازيغ، أو “البربر” كما سماهم التاريخ العربي، وعلى رأس هؤلاء قائد “بربري” عُرف في أدبيات المؤرخين المسلمين باسم “طارق بن زياد”، لكن الجيوش العربية بزعامة قائد عسكري عربي هو موسى بن نصير بقيت رابضة في تونس التي كانت تسمى آنذاك “إفريقية”، ولم تتحرك نحو الأندلس إلا بعد نجاح الأمازيغ في معركة غزو الضفة الأخرى.
7) أن نسبة طارق في المسلسل لأصول عربية مشرقية هو ضرب من العبث المخالف لمنطق الأشياء، لأن الروايات التي تنسبه لغير أصله الأمازيغي ضعيفة، حيث يستحيل بعث جيش من الأمازيغ لغزو الضفة الأخرى، وعلى رأسه عربي من الشرق، فالرواية التي تنسب طارق لأصول أمازيغية هي الأقرب إلى الواقع. غير أننا لا نعتبر ما قام به طارق من غزو لبلاد الغير عملا “بطوليا“.
8) أن تعليمات موسى بن نصير لطارق بن زياد كانت تحثه في حالة انتصاره على البقاء عند حدود مسرح المعركة، وعدم تجاوز ذلك الحدّ إلى حين مجيء العرب والتحاقهم به، والهدف واضح: استعمال “البربر” لغزو منطقة مجهولة لدى العرب، ثم القدوم لجني ثمار الانتصار وحصد الغنائم، وهذا ما حصل. ولم يكن هذا الإجراء في هذه الواقعة فقط، بل كان نهجا معتمدا لدى الأمويين في وقائع كثيرة أخرى، ويتمثل في جعل “العجم” في المقدمة للحفاظ على أرواح “العرب” الذين يستأثرون بالغنائم. فهذا ابن الأثير يذكر ما يلي:”وقال المختار لابراهيم بن الأشرم يوم خازر، وهو اليوم الذي قتل فيه زياد بن أبيه: إنّ عامة جندك هؤلاء الحمراء (يقصد غير العرب الأقحاح) وإنّ الحرب إن درّستهم هربوا، فاحمل العرب على متون الخيل وأرجِل الحمراء أمامهم”. ابن الأثير، الكامل في التاريخ، الجزء 1 ص:274. يقصد إجعل العرب فوق الخيول واجعل غيرهم يتمشون على أرجلهم في مقدمة الجيش.
9) أن خطبة طارق بن زياد المزعومة هي فبركة بلاغية تمت فيما بعد هذه الأحداث، والدليل على ذلك أن طارق لا يمكن أن يتوجه إلى قومه الأمازيغ في ذلك التاريخ المبكر بخطبة من ذلك النوع إلا إذا كان غرضه عدم التواصل معهم، والدليل الثاني أنها تشتمل على
مُحسنات بلاغية لم تُعرف في اللغة العربية ولم تنتشر إلا في القرن الثاني. والأرجح تاريخيا أن الكُتاب نقلوا بالترجمة ما رُوي عن معاني الخطبة ومضامينها إلى العربية وأسبغوا عليها تلك الصياغة الفخمة التي عُرفت بها في كتب الأدب.
10) أن موسى بن نصير نقم نقمة شديدة على طارق بسبب توغله شمالا وعدم التزامه بانتظار التحاقه بالأندلس. وأنه “شد وثاقه” وأعمل فيه السوط متهما إياه بإخفاء الأموال والغنائم، الهدف الرئيسي من الغزو. وأن طارق قدم له الكثير من الأموال من ثروات الملوك المنهزمين وكذلك الكنائس. ويذكر ليفي بروفنسال أن موسى بعد إساءة معاملة طارق “انطلق من طلبيرة إلى طليطلة حيث سلمه طارق الكنوز الملكية ونفائس الكنائس التي غنمها”. (تاريخ إسبانيا الإسلامية، ص: 62). وقد اشتهر موسى بقسوته البالغة، والتي جعلت منه أكثر القادة العسكريين بعثا بالأموال والغنائم للخليفة في المشرق. جاء في “الاستقصا” نقلا عن مصادر قديمة: “قال أبو شعيب الصدفي لم يسمع في الإسلام بمثل سبايا موسى بن نصير، ونقل الكاتب أبو إسحاق إبراهيم بن القاسم القروي المعروف بابن الرقيق أن موسى بن نصير لما فتح (سقوما) كتب إلى الوليد بن عبد الملك أنه صار لك من السبي مائة ألف رأس” (أنظر الاستقصا، أحمد بن خالد الناصري الجزء 1، ص 96 دار الكتاب 1954).
11) أن الأمازيغ الذين يعود إليهم الغزو الأول للأندلس تعرضوا لاضطهاد شديد من طرف العرب القادمين من المشرق بكثافة، وأن كثيرين منهم اضطروا إلى العودة إلى الضفة الجنوبية، كما قام بعضهم بثورات احتجاجا على استئثار العرب الأمويين بكل شيء في الأندلس. يقول رينهرت دوزي في كتابه “المسلمون في الأندلس” مفسرا ذلك:”إن النصر قد تمّ في الأندلس على يد البربر، ولم يفعل موسى والعرب غير جني ثمار النصر (…) حيث استأثروا بالأندلس الجميلة الخصبة، وأقصوا البربر إلى الشمال نحو المناطق القاحلة”. ولهذا ذكر ابن حزم مثل كثيرين بأن “الأندلس لم تُخمّس مثلما فعل رسول الله فيما فتح (…) بل نفذ الحكم فيها بأن لكل يد ما أخذت”. وقد اتفق كثير من المؤرخين على أن أهم أسباب “ثورات البربر” هو “ما اتسمت به الدولة الأموية من اعتزاز بالعنصر العربي واحتقار الأجناس الأخرى” (د. سلمى الخضراء الجيوسي ، الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، الجزء الأول)، ومن النصوص المعبرة عن ذلك بوضوح ما أورده أبو بكر بن القوطية في كتابه “تاريخ افتتاح الأندلس”، عن الصميل بن حاتم زعيم قبائل القيسية في الأندلس حيث وصفه بأنه:”كان مستخفا بالدين يشرب الخمر، لكنه كان شديد الاعتزاز بعروبته، وقد استمع ذات يوم إلى معلم يقرئ الصبية قوله تعالى: “وتلك الأيام نداولها بين الناس”، فوقف الصميل ونادى المعلم وقال له: وتلك الأيام نداولها بين العرب. ولما أجابه المعلم بأنّ الآية هكذا نزلت قال: ما أرى والله إلا أنه سيشركنا في هذا الأمر العبيد والأراذل والسفلة”.(تاريخ افتتاح الأندلس، تحقيق عبد الله أنيس الطباع، ص63).
12) أن نهاية طارق بن زياد لم تكن سارّة بل إنه اختفى في ظروف غامضة بالمشرق سكت عنها التاريخ العربي كليا، بعد استدعاء الخليفة له مع موسى بن نصير، كما لم يُفلت موسى نفسه من الاعتقال والتعذيب بسبب انتقام الخليفة الجديد سليمان منه، لأنه قدم الغنائم للخليفة الوليد الذي كان على فراش الموت، عوض انتظار توليه الحكم لتصبح من نصيبه.
13) أن الاتفاقيات والمعاهدات التي أبرمها العرب ـ بعد استحواذهم على السلطة ـ مع سكان الأندلس الأصليين، قد تم نكثها مباشرة، وأن الصورة الوردية التي رسمتها الرواية العربية عن التسامح وحسن المعاملة وتحرير “القوط” من ظلم حُكامهم لم تكن مطابقة تماما للواقع، يقول دوزي في موسوعته “المسلمون في الأندلس”:”لما ثبتت دعائم الاحتلال الأجنبي لم يعُد العرب يراعون العهود كما كانوا يراعونها وقت أن كانت قوتهم لا تزال مزعزعة، يؤيد ذلك ما حدث في قرطبة، فقد هُدمت جميع كنائسها عن آخرها، ولم يبق لمن بها من النصارى سوى الكتدرائية المهداة إلى القديس “فنسنت” ص: 51.
14) أن القبائل العربية بعد تكاثرها بالأندلس سرعان ما وجّهت سهام الحرب نحو بعضها البعض بسبب الغنائم والسبايا والرغبة في الاستئثار بالسلطة، حيث كان منطق التصرف كما رسخه الأمويون مبنيا على العصبية القبلية وليس الرابطة الإسلامية الجامعة، وتذكر المصادر التاريخية الكبرى وقائع الصراع المرير الذي حدث على الخصوص بين قبائل القيسية واليمانية.
15) أن هذه الوقائع التي نذكرها لا دليل عليها بوثائق تعود إلى تلك المرحلة، وإنما ذُكرت في كتب المؤرخين المسلمين بعد فترة طويلة من وقوعها. مما يعطي كل المصداقية للآراء والمواقف التي تضع كل تلك الأحداث والشخصيات موضع شكّ وتساؤل.
توصية:
يحفل تاريخ المغرب القديم بذكر شخصيات عظيمة تمثل نموذجا في التضحية والدفاع عن الأرض، ضدّ مختلف الغزاة الأجانب. إن قصة بطل مثل “إيديمون” Aedemon ، الثائر الأمازيغي ضدّ الرومان بعد اغتيال الملك المغربي بطليموس Ptolémée من طرف قيصر روما كاليكولا Caligula ، لتتوفر على جميع عناصر الدراما المشوقة، مع ما فيها من رسائل نبيلة تتعلق بتاريخ المقاومة المغربية، وليس غزو بلاد الغير واسترقاق أهلها.