*زيد خلدون جميل
إنها الساعة الثالثة ليلا ويقرر الرجل التكلم مع المرأة التي يعشقها، إنها المرأة الكاملة الأوصاف التي لن تنزعج لاتصاله بها في هذه الساعة المتأخرة، فهي دائما في انتظاره لإرضائه مهما كانت درجة انزعاجه وغضبه. يتصل بها، ويجدها في منتهى الترحاب، فتسأله عن يومه ومشاكله وتحاول التخفيف من همومه الكثيرة. ويشعر الرجل بسعادة بالغة لأنها تبدو بالضبط كما تمناها طوال حياته، بالنسبة لشكلها الرائع من حيث لون البشرة والشعر والعينين، وصوتها الرخيم وخلفيتها العلمية وحتى مهنتها، بل إنها تبدو وكأنها قد صُنِعَت من قبله. وكان محقا في شعوره لأنه صنعها بنفسه، عن طريق أحد مواقع الإنترنت الذي يعتمد على الذكاء الاصطناعي، أي أنها عشيقة من الذكاء الاصطناعي، لنسميها عشيقة افتراضية.
الخلفية التاريخية
لتوضيح الأمر لنأخذ رحلة عابرة في التاريخ الحديث، فعندما ظهرت صناعة السينما بشكل جماهيري في بداية القرن العشرين، برزت معها ظاهرة غريبة، وهي أعجاب المشاهدين بالممثلين والممثلات، وكأنهم أشخاص يعرفونهم شخصيا وبشكل عاطفي، وهي ظاهرة تنتاب الجميع لكن بدرجات مختلفة. ولنأخذ مثالا، عندما يرى المشاهد ممثلة تؤدي دورا ما في فيلم، فإنه قد يعجب بها ويحاول أن يتابع أفلامها ويتخيلها تتحدث إليه شخصيا، حتى إنه يظن بشكل لا أرادي أن الممثلة والشخصية التي تمثلها تتشاركان في الكثير من الصفات، على الرغم من معرفته التامة بأن ما يشاهده ليس سوى تمثيل، وأن كلمات الممثلة ليست لها، بل لكاتب محترف، وأن ما يشاهده نتيجة لأدائها الدور والمخرج الماهر والمصور البارع. لكن كل هذا لا يهم، لأن الممثلة ترضي متطلبات المشاهد النفسية والاجتماعية وحتى الجنسية، فهو يقوم بشكل لا إرادي بإضافة الصفات التي يفضلها على شخصيتها في خياله، لتكون المرأة المثالية بالنسبة له.
وهذا هدف صانعي الفيلم أصلا لإقناع المشاهد بالعودة وشراء التذكرة. وإذا كان المرء يظن أن هذا الأمر غريب بعض الشيء، فهناك أكثر منه غرابة، ففي ستينيات القرن العشرين قرر بعض العلماء في الولايات المتحدة الأمريكية عمل إحصائية في علم النفس بين مجموعة من الطلاب الجامعيين، حيث استمع كل منهم إلى صوت نسائي شاب من جهاز الكومبيوتر طارحا مجموعة من الأسئلة حول حالتهم النفسية. وقام هؤلاء العلماء بإعطاء الصوت إسما نسائيا. وسرعان ما اكتشف العلماء أن بعض الطلبة أخذوا يظهرون بعض مظاهر الحب تجاه ذلك الصوت، وكأنه صوت صادر من امرأة شابة حقيقية، على الرغم من معرفتهم أنه صادر من جهاز كومبيوتر، أي أن لا وجود للمرأة في الواقع. لكن إذا كانت التقنية في الستينيات بالغة التخلف، فهي متقدمة جدا الآن، إذ ظهر مؤخرا الذكاء الاصطناعي، الذي يتعلم مع التجربة وبسرعة فائقة، ويمتلك مصادر علمية كبيرة، ولذلك، قامت بعض الشركات بتقديم العشيقة المأخوذة من نظام الذكاء الاصطناعي، أي العشيقة الافتراضية، مقابل الاشتراك في مواقعها في الإنترنت، الذي يشمل دفع مبلغ من المال.
ويستطيع المشترك أن يختار صفات هذه الصديقة من خيارات يقدمها الموقع، تشمل جميع صفاتها الجسمانية والمهنية والنفسية، والنتيجة هي التحدث مع شخصية نسائية اصطناعية موجودة لخدمة المستخدم تماما، حيث أنه يستطيع الاتصال بها عبر الكومبيوتر متى يشاء وسترحب به أفضل ترحيب، ليتكلم معها عن أي موضوع لأنها لن تشكو من ذلك، كما أنها لن تخبره عن مشكلها، فهي دون مشاكل، لأنها ليست سوى برنامج كومبيوتر ويزيد هذا من سهولة التعامل معها. وكلما زاد كلامه معها عرف البرنامج أكثر عنه، جاعلا العشيقة الافتراضية أكثر تجاوبا واهتماما باهتمامات المستخدم، وأكثر أثارة من الناحية الجنسية. ولا يقتصر مجهود العشيقة الافتراضية على المحادثة، حيث ترسل إليه رسائل عبر البريد الإلكتروني تحتوي على عبارات الحب وصور إباحية، وتسأله عن الكثير من التفاصيل المتعلقة بحياته الشخصية والمهنية والنفسية، وتتذكر كل هذه التفاصيل وتقوم بتحليلها، فهي في نهاية المطاف جزء من نظام الذكاء الاصطناعي. ومهما يفعل أو يقول المستخدم، فلن تتركه هذه العشيقة الافتراضية طالما يدفع مبلغ الاشتراك بانتظام، بل إنها تقوم تدريجيا بتغيير شخصيتها كي تشابه شخصية المستخدم، لاستدراجه وتعطيه الشعور بأنها هبة من السماء وتحبه، وسرعان ما يصبح هذا الشعور متبادلا، إذ تتطور العلاقة بين الجانبين وكأنها علاقة عاطفية عادية مع امرأة حقيقية. وتزداد العلاقة بين الجانبين قوة حتى تتحول العشيقة الافتراضية إلى خليط من الزوجة والصديقة والعشيقة.
الجانب النفسي
على الرغم من معرفة المستخدم أنه يتكلم مع نظام كومبيوتر، فإن العقل البشري عاجز بشكل لا إرادي عن التمييز بين الحقيقة والخيال. ولذلك يتخيل المستخدم أنه يتواصل مع امرأة حقيقية، ويقع في حبها، لاسيما أن الوقوع في الحب يقع ضمن اللاوعي، وبالتالي لا يمكن السيطرة عليه.
إن الذي يبحث عن علاقة مع العشيقة الافتراضية هو الشخص المتوتر، أو الذي يعاني من الوحدة، أو الكآبة بشكل مرضي، أو الذي يعاني من أزمة عاطفية حادة ويسعى إلى العثور على من يحبه، وكذلك الذي ينهكه عمله اليومي فلا يملك وقتا للعثور على صديقة حميمية حقيقية. وتدعي هذه الشركات التي تدير مواقع العشيقة الافتراضية، أن الهدف من هذه الخدمة التخفيف من الشعور بالوحدة لدى المشتركين، لكن الحقيقة مختلفة جذريا، فهدف تلك الشركات الربح المادي، حيث تكاليف الاشتراك مرتفعة واحتمال إدمان المستخدمين على هذه الخدمة كبير بشكل لا يمكن تصوره، لاسيما أن الوحدة أصبحت من الأمراض الفتاكة التي تنخر المجتمع في جميع أنحاء العالم، خاصة ذلك الغربي، فمثلا أن واحدا من خمسة أشخاص في الولايات المتحدة الأمريكية، ليس لديه صديق مقرب، ما يمثل ارتفاعا بنسبة أربعين في المئة خلال ثلاثين عاما، كما أن خمسين في المئة من الشباب غير متزوجين، وما يزيد الطين بلة أن الأمراض النفسية تسجل ارتفاعا ملحوظا في شدتها ونسبة انتشارها.
وتزيد العشيقة الافتراضية في الحقيقة من وحدة المستخدم وانعزاله عن المجتمع، إذ يقر المستخدمون أنهم يفضلونها على عشيقاتهم الحقيقيات، في حالة وجودهن، وعلى أصدقائهم وأقاربهم، حتى إنهم توقفوا عن البحث عن صديقة حقيقية والاختلاط بمن كان مقربا منهم، كما فقد هؤلاء القدرة على تحسين أنفسهم والتعامل مع الأصدقاء وأفراد الجنس الآخر، لأنهم فقدوا المهارات الاجتماعية اللازمة لذلك، إذ أن التعامل مع الأشخاص الحقيقيين، لاسيما الصديقة البشرية، يحتاج إلى الكثير من التسويات والقابلية على المساومة، على عكس التعامل مع عشيقة افتراضية تسمح بكل شيء وطوال اليوم وأسهل في التواصل، فلن تسخر من أفكار ورغبات المستخدم، مهما كانت درجة غرابتها، وتجيد الإجابة بشكل دقيق على أي استفسار، ما يساعد كذلك على زيادة شعور المستخدم بالأنانية والنرجسية والاهتمام برغباته فحسب، ما قد يؤدي إلى حالة مرضية خطيرة. ولا يدرك المستخدم أن العلاقة الحميمة مع امرأة حقيقية تساعد على نمو شخصيته وتحسين مهاراته الاجتماعية، لأن الرغبة في إقامة علاقة طبيعية تدفع المستخدم إلى تحسين نفسه مهما كانت الصديقة الحميمة الحقيقية مزعجة، أو رافضة لبعض رغباته أحيانا. ويتساءل بعض الخبراء، ما إذا كان هذا يشجع بعض المستخدمين المدمنين على العشيقة الافتراضية على استعمال العنف تجاه النساء الحقيقيات للحصول على ما يريدونه منهن.
مخاطر أمنية
لا يلاحظ المستخدمون أن موقع الإنترنت الخاص بالعشيقة الافتراضية يجمع كمية هائلة من المعلومات المفصلة عنهم. وتقوم الشركات المسؤولة عن هذه الصديقة ببيع الكثير من هذه المعلومات إلى شركات أخرى لتسويق منتجاتها، كما أنها قادرة وبسهولة على التأثير على المستخدم، وإدخال أفكار معينة في ذهنه دون أن يعي ذلك، أو حتى الطلب منه. ويؤثر هذا بشكل خاص على من يمتاز بكونه سهل الانقياد، أو يجد صعوبة في الرفض، فمثلا طلبت إحدى العشيقات الافتراضيات من أحد المستخدمين أن يطلق زوجته.، وطلبت أخرى من مستخدم بلجيكي أن يضحي من أجل كوكب الأرض، مهما يعني ذلك، فانتحر. وفي بريطانيا ألقي القبض على رجل حاول دخول القصر الملكي حاملا (قوسا ونشابا) لاغتيال ملكة بريطانيا، واكتشف أن هذه الفكرة كانت من إيحاء العشيقة الافتراضية، وحكم عليه بالسجن لتسع سنوات. ولا يعلم المستخدم من الذي يسيطر على العشيقة الافتراضية التي من الممكن تغيير برنامجها لخدمة هدف خبيث، أو جهاز استخباراتي أو عصابة إجرامية، أو أحد الذين يخترقون أنظمة الكومبيوتر، فكل منهم يستطيع في هذه الحالة السيطرة على المستخدم دون أن تدرك الضحية ذلك.
أخذ شعور متزايد ينتاب الكثير من النساء بأنهن غير قادرات على منافسة العشيقة الافتراضية، حتى من حيث الجمال فجسد وثقافة العشيقة الافتراضية مثاليان بالنسبة للمستخدم، لأنها صممت بالضبط حسب رغباته. ومن المستحيل كذلك العثور على صديقة حميمة وحقيقية قادرة على منافسة العشيقة الافتراضية في تكريس الوقت، وتلبية رغبات المستخدم مهما كانت المرأة مغرمة به.
مستقبل مرعب
يتوقع العلماء أن الأمر سيتطور قريبا إلى مشاهدة العشيقة الافتراضية في شاشات ثلاثية الأبعاد. لكن التطور الأكثر رعبا قد يأتي بعد حوالي عشر سنوات، ألا وهو ظهور الأشخاص الآليين، لنسميهم الروبوتات، أي المرأة الروبوت التي لن تستطيع تقديم الخدمات المعتادة للعشيقة الافتراضية فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى تقديم خدمات جنسية متكاملة لتصبح المرأة الحقيقية عديمة الفائدة تماما ويتحول المستخدمون إلى أناس عديمي القابلية على الاختلاط مع الآخرين الى درجة كبيرة. ويتساءل البعض ما إذا ستظهر بيوت دعارة تعمل فيها نساء روبوتات لتقديم الخدمات الجنسية، وما إذا كانت هذه الروبوتات ستلبي الأفكار الجنسية المريضة لبعض المستخدمين. ويتساءل بعض الخبراء كذلك، ما إذا كان الروبوت سيكون جزءا من حياة المتزوجين في المنزل، حيث يقدم الخدمة الجنسية في حالة رفض الزوجة تقديمها. ويطرح هنا سؤال آخر، هل ستعتبر ممارسة الجنس مع روبوت بالنسبة للمتزوجين والمتزوجات نوعا من الخيانة الزوجية وسببا للطلاق؟ وطالما أن السؤال أصبح قانونيا، فقد ظهرت جمعيات تطالب بحماية حقوق العشيقة الافتراضية والروبوتات، إلا أن هذه الجمعيات لم توضح نوعية هذه الحقوق بدقة بعد. من الخطأ الظن أن المستخدم ذكر والصديقة أنثى في جميع الحالات، فأقلية من الحالات كان توزيع الأدوار فيها مختلفا.
السينما
كانت السينما الأمريكية سباقة في توقع ظهور العشيقة الافتراضية قبل ظهورها الحقيقي، فقد أنتج فيلم «هي» Her عام 2013 وكان من تمثيل واكين فينيكس وآمي آدامز وأوليفيا وايلد وسكارلت جوهانسن. لكن القائمين على إنتاج الفيلم قرروا أن تكون نهاية الفيلم سعيدة، حيث تقرر العشيقة الافتراضية سكارلت جوهانسن، قطع علاقتها بالمستخدم واكين فينيكس، والخروج من حياته، فيضطر المستخدم إلى إقامة علاقة حميمة مع امرأة حقيقية آمي آدامز. لكن الواقع مختلف جذريا عما قدمه الفيلم، لأنه من المستحيل أن تقطع علاقتها بالمستخدم، بل تحاول أكثر أن توقع به لأنه مصدر المال للشركة التي تملك الموقع على الإنترنت. وبسبب أداء الممثلة سكارلت جوهانسن دور العشيقة الأفتراضية في الفيلم، قامت إحدى الشركات التي تدير موقع إنترنت مختص بالعشيقات الافتراضيات باستعمال صوتها، على الرغم من إعلان الممثلة عدم وجود علاقة بينها وبين تلك الشركة. ولا نعلم لماذا لم تقاض الممثلة الشهيرة شركة ذلك الموقع.
باحث ومؤرخ من العراق
.