شكرا لتلك الليلة التي كانت غارقة في البياض ، لأنها قذفت بي بعيدا لأنبش في تربة ذكريات كانت تضغط على دواخلي، كان الإحساس عارما، لرؤية وجدة مزهوة في فستانها المنقط بوحدة الحلم ،وألق اللحظات المترعة بالامتداد الأخوي، والرغبة القوية ،في إزاحة ما يروم إجهاض العين والقلب ،وهما ينحتان اتجاها يكشف عن قدرته الاندماجية بأشعة الحنين المتجذر في ذاكرة الأمكنة وتضاريس الوقائع والتواريخ.
كان ذلك الإحساس يلهبني ويلسعني، فأزداد انجذابا نحو هذه المدينة ،التي لا أدري كيف اخترقتني دفعة واحدة، لترغمني على احتراف التذكر. وعلى امتداد المسافة الفاصلة بينها وبين الرباط، لم أستطع كبح جماح ذلك السؤال المقلق حين كان يتوغل في أحراش الدماغ ،ويوقظ ما تبقى في القلب من أشكال وخرائط أبدعتها تلك الأعوام المقفلة، التي هربت إلى قلعة من الإسمنت الموبوء، فأخصيت لتنتزع منها وظائفها.
ولما حدث لها ما حدث ،كان مآلها العدم. فعلا، أتذكر يا “وجدة/الغصة” حين دخلت ديارك مسربلا بسذاجتي. فتحت ذراعيك حد التمزق، أفرغت على وجهي رضابك الصحراوي. نطقت بصرامة: سترابط هنا. سأختارك عاشقا
.
وبسرعة البرق، احتلني بريق مغناطسيتها، انهزمت فاعتنقتها هما ووسواسا أعاشره مقتنعا بصبابتي وهيامي، وكل ذلك حتى أرضي استراتيجية هذه المعشوقة، وحتى تقهقه الثقة في مقلتيها. دغدغتني، أودعت وصيتها الأخيرة في نياطي.
نثرت ثلاث قبلات على جبيني، وانسحبت دامعة العين. إلتحقت أنا بتلك البقعة القاتمة ،والواقعة في الجزء السيئ من نسق الهندسة البشرية. قصفتني مطالبها اللاتفهم، قبلت رغم فداحة الألم، لأنها أحاطتني بنار الحكمة وبمزهريات الطيبوبة وألهمتني الصبر.
ولما تحررت من الأصفاد ونتانة العنابر، ،وجدتها في انتظاري على أحر من الجمر ،قبالة باب مصفح بلون يوهم بالاخضرار.
انقضت علي لتغطيني بدموعها الدافئة، استرخت على صدري فبادلتها البكاء. أدركت هي أنني مصر على السفر.
فسافرت لا لأنفصل عن فتنتها العميقة، ولكن لأتواصل معها بصوفية تناهض الوسائط والقنوات. كان القطار يلتهم المسافات، ويمعن في إتحافنا برقصاته وإيقاعاته التي تستفز جياد الذاكرة، فتحرضها على الركض في عوالم لا تتشكل إلا أثناء السفر. ففي السفر تحضرنا أشياء تجمعنا بها أكثر من وشيجة، نفكر فيما فات من عمرنا، في وجوه غابت عنا، ونفكر في مشاريع ومحطات تطل علينا من شرفة المستقبل.
هو السفر متعة لا يفقه أسرارها، إلا الماسكون بخبايا المنفصل والمتصل، حين يرتدي زي التشاكل بين التأمل والتلقائية. تفرست مليا صمود العين ،وهي تمارس النظر والرصد رغم كتل الظلام، وتزداد اتساعا ويقظة عندما تتحسس اقترابها من سحر الشرق. يتورط الجسد كله في دغل أسئلة كثيرة ،تحيله على البداية الأولى لانبثاق أبجدية متخيلنا الإبداعي ونظامنا الميثولوجي.
الشرق تعدد دلالي، ونقطة تقاطع نوستالجي. فلول الظلام شرعت في الانسحاب، والصباح بطراوته ونضارته راح ينبلج وينتشر. من زجاج المقصورة كانت تتبدى بعض الأبنية الباهتة التي تذكرك بالرسوم الدارسة، وبالدموع التي انبجست من أحداق الشعراء، احتراقا وتألما على الحب الذي رحل
.
صباح الخير “وجدة”… أما زلت تذكرين العهد الذي مضى؟! أمازال لي مكان في أمدائك؟! افتحي لي قلبك بابا أعبره كي أستريح على أريج حنانك، وأتضوع بمسك العيون التي تمتنع عن التنصيف المعياري المبتذل. صباحك هزني.. وما في الدماغ متسع للتساؤل.. شل لساني..
اكتفيت باحتضان تشقق نبت في كياني. بطريقة مرتجلة رتبت بعض الأشياء لأتفرغ لك، ولأستعيدك بالكيفية التي اشتهي. قصدت مقهى”الكتبية”، تأملت جدرانها، استنشقت رائحتي القديمة التي مازالت مخبأة في الزوايا، وجدت جاذبية مميزة في هذا المكان الذي كنت أتردد عليه باستمرار، لأقرأ وأكتب تحت رحمته، وكان آخر نص قرأته فيه، “لتورغنيف” كان ذلك عام 1984، قبل أن أجد طريقي إلى إقامة قسرية دجنت فيها تدجينا.
واجهتني المشاهد بحزنها ،فتضامنت معها بسهولة وسلاسة. هل تأمل أحد منا في تلك “الروحية” التي تمتلكها الأمكنة؟ المكان يحيي فينا العديد من القطع والأجزاء التي صنعناها بأنفسنا، ثم انقطعنا عنها، والمكان رزنامة نفسية وفلسفية وتاريخية وذهنية. وكم من النصوص السردية أسندت بطولتها الى المكان
.
سامحيني “وجدة” أيها النصل المغروس في خاصرتي، إن أنا قصرت في حقك. فللزيارة إكراهاتها، ورغم ذلك فالذي يمتد بيني وبينك يستحيل أن يذهب سدى.
- هذآ النص، كتبته عندما كنت في الخامسة والعشرين من عمري،بمناسبة تغطية اللقاء الأول للكتاب والأدباء المغاربة والجزائريين، الذي احتضنته مدينة وجدة عام 1989 .