تستمر السلطات المغربية في اتخاذ جملة من القرارات التي يصفها حقوقيون مغاربة على أنها “تحدٍ من حريات ونشاطات المغاربة”، والذريعة ـ وفقهم ـ متمثلة في الانتشار السريع للمتحور الجديد “أوميكرون” بأوروبا وإفريقيا، مما أدى إلى اتخاذ إجراءات هادفة للحفاظ على المكاسب التي راكمها المغرب في مجال تدبير “جائحة كوفيد-19” وحماية صحة المواطنين.
آخر هذه القرارات كانت تمديد تعليق الرحلات الجوية المباشرة للمسافرين، من وإلى المغرب، إذ أعلنت الخطوط الملكية المغربية، مساء الخميس، إلغاء الرحلات الجوية الدولية التابعة للشركة، من المغرب وإليه في كلا الاتجاهين، وإلى 31 كانون الأول/ ديسمبر الجاري.
إلى ذلك، قررت الحكومة المغربية منع جميع المهرجانات والتظاهرات الثقافية والفنية في البلاد للحيلولة دون انتشار فيروس “كورونا”، مستندة إلى “المقتضيات القانونية المتعلقة بتدبير حالة الطوارئ الصحية، وتعزيزاً للإجراءات الوقائية اللازمة للحد من انتشار وباء كورونا المستجد”، داعية المواطنات والمواطنين للانخراط القوي في الحملة الوطنية للتلقيح، ومواصلة الالتزام المسؤول والحرص على اتخاذ كافة الاحتياطات الاحترازية، بما يحافظ على المكتسبات المحققة، ويساهم في العودة التدريجية للحياة الطبيعية في البلاد”.
ويبقى فرض “جواز التطعيم”، وهي وثيقة تثبت تلقي اللقاح، أكثر القرارات التي أثارت الجدل وأخرجت المغاربة إلى الشوارع في مظاهرات احتجاجية رافضة للقرار الحكومي الذي يفرض التطعيم/ التطعيم شرطاً للتنقل ودخول المؤسسات العامة وغيرها، حيث قوبلت المسيرات الاحتجاجية بالمنع في عدد من المدن المغربية.
قرارات فاقمت الوضع
الحقوقي المغربي عبد الرزاق بوغنبور وصف إقدام الحكومة المغربية على فرض “جواز التطعيم” بهذا الأسلوب الذي يعتمد لغة المنع والزجر، بـ”غياب المنطق السليم والحجة العلمية، بل وضعف الكفاءات الطبية والعلمية المغربية التي تتولى الإشراف على إدارة أزمة الجائحة” وفق تعبيره، معتبراً أن إجابة المغاربة عن جملة المخاوف من مخاطر اللقاح وتأثيراته الآنية والمستقبلية عبر الرفض والزجر لن تأتي إلا بنتائج عكسية.
ويرى المتحدث لـ “القدس العربي” أن الجميع متفقون على أن صحة الإنسان هي الأولوية، لكن من الخطأ أن تقول الدولة منذ البداية بأن التطعيم اختياري، في حين تفرض على المواطنين بطريقة غير مباشرة إجبارية التطعيم/ التطعيم لاحقاً، لأن غير المطعم سوف يحرم من كثير من الحقوق الطبيعية والمضمونة دستورياً وبموجب مواثيق دولية لها سمو حتى على الدساتير الوطنية.
ويرى الرئيس السابق “للعصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان” أن تركيز الحكومة المغربية على جواز التطعيم، بذريعة حماية الصحة العامة، مجانبة للصواب وللحس وللمنطق السليمين، وتابع قائلاً: “نحن مع حماية أرواح كل الناس، بتوفير خدمات صحية جيدة، وبالحرص على رفع الوعي بأهمية إجراءات السلامة الفردية، الدولة قالت منذ البداية إن التطعيم اختياري وفي أنها لم تجعله إجبارياً هو التخوف من تحمل المسؤولية عن الأضرار غير المتوقعة التي يمكن أن يتعرض لها المطعمون على المدى الآني أو المتوسط، هذا النقاش حكم العالم وشكل عنصراً مهماً منذ بداية اكتشاف اللقاحات، والتوجه نحو جعله اختيارياً فيه قدر كبير من الصواب”.
“يبدو من خلال ما حدث أننا أمام إشكاليات حقوقية وترسيخ للديكتاتورية الصحية، ففرض جواز التطعيم بهذا الأسلوب الارتجالي فيه مس بالعديد من الحقوق المدنية والسياسية، وهذه الفئة من الحقوق تحمي حرية الأفراد من التعدي من قبل الحكومات والمنظمات الاجتماعية والأفراد، والتي تضمن قدرة الفرد على المشاركة في الحياة المدنية والسياسية للمجتمع والدولة دون تمييز أو اضطهاد” حسب عبد الرزاق بوغنبور متحدثاً لـ “القدس العربي”.
ويعتقد الحقوقي المغربي أن الظروف والأوضاع التي فرضها وباء “كورونا”، أصبح معها ومن الضروري الحماية ضد التمييز على أساس التطعيم من عدمه، فلا أحد يخاف على صحة الإنسان أكثر من الإنسان نفسه، وفرض التطعيم على الناس بطرق ملتوية خرق للحق في السلامة الجسدية.
في نظر بوغنبور، فإن الخروج للشارع احتجاجاً على فرض التطعيم، لم يكن تصرفاً عبثياً أو عدمياً، وإنما على اعتبار أن الحل العملي هو العودة إلى الوضع الطبيعي برفع حالة الطوارئ الصحية، وجعل الناس يتكيَّفون مع الوضع الجديد عبر تركيزهم على وسائل الحماية الشخصية، والتباعد والكمامة في الفضاءات المغلقة، وتوفير الفحوص المجانية أو منخفضة التكلفة، ويعني كذلك أن سنّ القوانين المقيِّدة للحريات العامة والخاصة، أو التي تتعارض مع المبادئ الدستورية السابقة، لابد أن يمر عبر المراحل العادية المنصوص عليها في دستور 2011 وأن يكون للمؤسسة التشريعية دور في سن القوانين، وفي حالة تعديل النص الدستوري لابد من اللجوء إلى الاستفتاء الشعبي.
تفسيران
وفق الطبيب مصطفى كرين، وهو رئيس “المرصد الوطني للعدالة الاجتماعية”، فهناك تفسيران لا ثالث لهما فيما يتعلق بسلوك وقرارات الحكومة الأخيرة في مواجهة “كوفيد”، إما أنها تؤمن بمنطق “صفر خطورة أو صفر مخاطرة ” zero risk، وإما أن هناك مبررات أخرى لم تفصح عنها الحكومة ولا تريد الإفصاح عنها.
“فيما يخص الاحتمال الأول )أي صفر مخاطرة( فإنه منطق خاطئ تماماً ليس فقط في ميدان الطب أو السياسة ولكن أيضاً في جميع المجالات، وبالتالي إذا كانت الحكومة تنتظر ضداً على السياق العالمي، أن يأتي يوم ينتفي فيه وجود الفيروس فإنها مجانبة للصواب تماماً، بل قد تضطر بسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية المحتملة إلى اتخاذ قرارات مناقضة تماماً وكلياً للقرارات الحالية، ولو في ظل سياق وبائي أسوأ بكثير من الوضع الحالي.
وأبرز المتحدث لـ”القدس العربي” أنه بعد رفض فتح الأجواء رغماً عن توصية اللجنة العلمية القائلة بالفتح، فمعنى ذلك أنه لا أحد سيأخذ بتوصياتها، وهنا يطرح السؤال عن دورها بالضبط وعن صلاحياتها، وهو ما يضرب في مصداقيتها ويزرع الشكوك في عقول المواطنين حولها، ويتساءل المواطنون كيف يتم تجنيد إمكانيات الدولة كلها لإقناع الناس بالتطعيم أو بأخذ الجرعة الثالثة بناءً على رأي اللجنة العلمية ولا يُؤخذ برأيها في احتمالات انتشار الوباء وخطورته من عدمهما وما يفترض أن يترتب عن ذلك من إجراءات.
أما إذا كان السبب في قرارات الحكومة غير ذي علاقة بالوضع الوبائي، يضيف كرين، فإنه من واجب الحكومة أن تتحلى بالشفافية والنزاهة مع المواطنين وتعطيهم التبريرات المنطقية والحقيقية لقراراتها، لأنه إذا تسرب الشك إلى أذهان المواطنين حول الحكومة ذاتها كمؤسسة دستورية مسؤولة عن تدبير البلاد، فإن ذلك ليس بالأمر الهين وقد تترتب عليه مشاكل بالجملة.
وأشار المتحدث إلى خطورة تأثير هذه المنظومة التدبيرية والقرارات المترتبة عنها على الصحة النفسية والعقلية للمغاربة، واصفاً الأمر بالخطير الذي يجب عدم الاستهانة به.
توازنات
وعلاقة بقرار المغرب إغلاق حدوده الجوية، يرى عبد الرحيم العلام، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاضي عياض في مراكش، أن الأمر متعلق بالجانب الاقتصادي بداية، ذلك أن آلاف الحجوزات تم إلغاؤها فضلاً عن تضرر القطاع السياحي، بالإضافة إلى الجانب الحقوقي كذلك، لأن عدداً كبيراً من المواطنين العالقين في الخارج ينتظرون العودة والعكس.
ولفت المتحدث إلى أن الدولة تحاول الموازنة على مستوى التضحيات التي يمكن أن تقدمها بسبب الإغلاق، “وفي حال كانت تستند على معطيات دقيقة ومضبوطة، فربما الدولة تفكر أن سلبيات عدم الإغلاق أكثر من استمراره”، وفق تعبير العلام.
وأبرز الأستاذ الجامعي ضمن تصريحه لـ “القدس العربي” أن هناك تداعيات اقتصادية عامة وفي المجال السياحي خاصة، بسبب هذه القرارات وعلى رأسها إغلاق الحدود، إلا أنه وفي حال انتشار “فيروس كورونا” ومتحوِّره الجديد، فلن نستمر في الإغلاق على مستوى الخارج بل سيوازيه إغلاق بالداخل، وتابع “ربما الحكومة اليوم تفضِّل أن تُعطي المغاربة حرية التنقل داخلياً وانتعاش الاقتصاد محلياً، مرجِّحة أن المردود الاقتصادي من استمرار الحركة التجارية والاقتصادية داخلياً سيكون أفضل مقارنة مع الحركة مع الخارج.”
وخلص المحلل السياسي المغربي إلى استبعاد وجود معطيات سياسية أو رغبة في إلحاق أضرار بحقوق الإنسان وبالتضييق على الحريات علاقة باستمرار الدولة في الإغلاق، مبرزاً أن هذا الأمر يمكن الحديث عنه في حال منع التجوال الداخلي أو منع المواطنين والمواطنات من التنقل بين المدن”.