عاش، بعد الاقتناع بضرورة النضال من اجل الإنسانية، بعدما أقدم على ولوج طريق الكفاح الوطني الشاق دون تردد أو تجلجل.
رسم لأولاده وحفدته المسار النضالي الأخلاقي السيار وفق معتقدات العائلة المتوارثة، اقتداء بالجد الذي كان يؤمن بأنه لا قيمة لنضال حزبي دون ان يكون مؤنسا بنضال أخلاقي ولا جرم في ان الأخير هو المناعة لتحول مجرى العمل الحزبي من الفضيلة والفلاح الى الرذيلة والسفاهة …
بوشتى الجامعي هو العلامة البارزة الخالدة، كانت له حياة نضالية دفاعية عن حزب الاستقلال و الوطنية.
الرجل الذي عني بخدمة الفقراء و الدفاع عن الصالح العام، لم يكن سياسيًا وناشطا استقلاليا وبرلمانيا فحسب، بل كان أيضا رئيسًا لبلدية الحي الحسني ورئيسا سابقا لناد رياضي.
اسهمت رؤيته التي لم تتأثر بالزيف الاجتماعي و لا التمويه السياسي في غرس مبادئ الاخلاق وحب الوطن في أبنائه.
و برؤية متجددة دائما يذكرنا بثمرات الكفاح والمقاومة في مسارات هذه الحياة المتقلبة ، فاعتبر واحدا من ابرز الملحين على ثقافة التسامح والإحسان التي تظل حاضرة في الذاكرة متجسدة في اعماله الخيرية و صدقاته الجارية التي لا تعد و لا تحصى.
لا عجب في ان حياة العظماء في النضال وثوار الاستقلالية تدور كلها حول الصرامة والكفاءة وكان من نصيب بوشتى الجامعي المقاوم والسياسي والرياضي الكثير منها، وعلى طول الطريق حمل مشعل الانتصار وكتب بدمائه وباقي المقاومين صفحة المجد والخلود، التي صنعت لنا ما نراه في ” مغربنا اليوم “، مثل الجامعي كمثل الرجل الذي لن يتكرر ابدا.
كانت أعظم نقاط قوته صناعة التحول نحو الأفضل في حاضر الإنسانية، متمسكا ببراعة بقيم تعاليم دين السلام والتسامح والفطنة السياسية…
“يتذكر الناس جدي كإنسان وطني من الناس الذين أسسوا حزب الاستقلال ومن الناس الذين وقعوا على وثيقة الاستقلال، لم يكن جدي انسانا غنيا البتة، كان قد توقف عن الفعل السياسي في عام 1956 بعد حصولنا على الاستقلال مباشرة.
لقد كنا فقراء ماديا عكس ما هو متعارف عنه حول نسب الجامعي، لكن كان لدينا غنى في العلاقات الإنسانية والتي نمت في ذهني منذ كنت صغيرا ” يقول أبو بكر الجامعي …
من المتعارف عليه ان الناس في المغرب يقيسون النضال بالفقر والتعاسة لكن على الرغم من ان بوشتى الجامعي كان يتقاضى من تقاعده 400 درهم فقط عقب سنة 1956 ـ لم ينل شيئا ولا حتى منصبا ولكنه كان محظوظا بأولاده الذين درسوا وحققوا احلامهم ورفعوا همته في اتجاه البواسق.
بوشتى الجامعي خريج القرويين كان عكس ما هو متداول على رجالات السياسة وما الى ذلك، لم يكن كثير الكلام، الصلاة في وقتها، المداومة على قراءة كتاب الله، والحرص على اخراج الفتوات، عقب وفاته كان قد شارف على إنهاء صحيح البخاري، كانت مشاعر الحب والعطف تكسو العلاقة بينه و بين حفدته خصوصا مع المشاغب أبو بكر، كل يوم اربعاء على طاولة الغذاء كان الجد يستقبل حفيده بنفس السؤال المتكرر و النبرة الهادئة: (واش مزال ماهداك الله تصلي) وبعد الانتهاء من ملء البطون ، تجدهما يتبادلان اطراف الحديث و يناقشان المواضيع التي تدور فلك الدين و التربية ، (كان رحمة الله عليه يخاطب عقلي و لا يؤنبني كما يفعل المعلم…)
كان من خصال الجامعي :
– رفضه للمستعمر، فلم ينطق يوما ببنت شفة في اللغة الفرنسية لا بين فلذات كبد و لا بين عامة الناس، ولم يلبس لباس الغرب يوما ، كل يوم الجلباب و الرزة.
– الخلق الكريم والكلمة الطيبة، لم ينطق بالعيب في حق شخص يوما، قد يبدو الامر غريبا، ولكنها حقيقة تداولتها جميع الالسن، يقول الابن خالد الجامعي: حين كنت أسأله بخصوص الخلاف الفكري والتنظيمي بين علال الفاسي ومحمد بلحسن الوزاني كان يرفض مجاراتي في النقاش وينهي المحادثة بعبارة: “ماشي كلشي خاصوا يتقال”، الا انه لم يسبق لي ان سمعته ينتقد بلحسن الوزاني او يقول فيه كلمة عيب بل كان يقول عنه دائما انه رجل وطني قدم الكثير من اجل المغرب كما انني لم اسمعه يتحدث بالسوء عن حزب الشورى والاستقلال.
– الوفاء وعدم الخيانة، عندما اعتقل اولا من بين رجال الحركة الوطنية في نهاية العشرينات من القرن الماضي، كان الباشا البغدادي باشا فاس آنذاك، قد امر باعتقال بوشتى الجامعي، وحين علم رفاقه الخبر، ارتابوا في ان يكون قد اعتر ف بأسمائهم تحت التعذيب فوضعوا خطة لمقابلة السجين والتأكد من صحة الشكوك، فافتعل اثنان منهم عراكا عنيفا، وألقى القبض عليهما وأودعا السجن فالتقيا بالجامعي، هذا الذي طمأنهما بدوره بأنه لم يبح بكلمة عن رفاقه بل كان مصرا أثناء الاستنطاق انه يعمل بمفرده.
– الصمود والعزيمة، قبيل لحظات من اعتقاله من طرف السلطات الفرنسية للمرة الثانية، كان يكرر موجها كلامه لطفله خالد ،الذي لم يتجاوز أنداك التاسعة من العمر قائلا: ( احرق ولا تمزق فان العدو يلفق) كانت إشارة واضحة لحرق وثائق الحركة الوطنية التي قد تورطه في تهمة ثقيلة، و حين حضر الجنود ليعتقلوه اخطؤوا البيت و بدأوا يطرقون بيت الجيران ، وعندها أطل الجامعي من النافذة و عيونه تتبع حركة الجنود وهم يطرقون باب الجيران نظر الى اهله و علق ساخرا : “شوف هاد المفلسين حتى الدار ماعارفينهاش”” قالها باعتزاز ودونما خوف ثم ودعهم و نزل الادراج بلا اية ذرة خوف و خرج ينادي عليهم قائلا واثقا : “خليو الناس عليكوم انا هو بوشتى الجامعي الي كتقلبو عليه”
– البر والاحسان، بينما كان خالد الجامعي يستقل سيارة اجرة كان يستمع الى برنامج يسرد فيه الجمهور قصص نجاحهم عبر راديو العربة ، فإذا برجل يتحدث عن صباه 7او 8 سنوات ، يقول كنت في العروبية ، أرسلني والدي للعمل لدى عمي في (الرحبة) محل لبيع الزرع و الزيت و الزيتون بالدار البيضاء ، لكي أترزق الله ، وفي احد الأيام، بينما كنت اساعد في حمولة قنينات الزيت فاذا برجل اتى ليقتني هو الاخر بعض الزيت، قمت بمهمتي و ساعدته في حمل القنينات ، ونحن في الطريق فاذا به يسألني عن اسمي و دراستي ، وجدني احفظ بعضا من ما تيسر لي من القرآن وقواعد اللغة العربية و بعد وصولنا الى البيت منحني بعض النقود، لكنه اصر على العودة من أجل الحديث و عمي حول موضوع مهم ، فسمعته يحاور عمي بلهجة آمرة: ” غدا مع 8 ديال الصباح بغيت لقاه حدا باب ديال مدرسة الازهار هاد الولد خاصو يقرا ماخاصوش يضيع ” كان هذا الشخص هو السيد بوشتى الجامعي و الذي أدين له بالكثير.
كان الفقيد من اشد المناضلين المدافعين عن حزب الاستقلال وكان يغرس في أبنائه مبادئ الوطنية، وكانت له غيرة خاصة على حزبه وعلى ساكنة الحي الحسني، وكان يسعد بخدمة الناس مرضاة لوجه الله تعالى، وان المرحوم كان أبا حنونا وعطوفا ومرتبطا بأبنائه، وأولى لهم أهمية فائقة من حيث التربية والتعليم، تقول سليمة الجامعي.
لا ندري كيف كان طعم الحياة وقتها ما دمنا لم نجرب من الأمور الكثير في ظل وسط اجتماعي عليل ولكنا ندري ان بوشتى الذي وقف في وجه العدو في سبيل خدمة الوطن، المدينة، ثم الحي قد عايش الكثير من التذبذبات وفي ظل هذه المعايشات أعقب خالدا القائد والصحفي وأعقب خالد أبو بكر الصحفي والأستاذ الجامعي، وهي شجرة عائلية ستظل خالدة بأرواح من اعتنوا بها حتى بلغت هذا المستوى من النجاح والنبات الحسن.
ونقول بدورنا، وداعا للإنسان والسياسي والخيري والمحبوب والمتسامح… وداعا للرجل الذي لن يكرر يوما… كل ما قيل حوله صادق دون مواربة، حقيقي دو تمويه ولكنه لا يمثل سوى جزء من الحكاية…