(…الامتناع عن استعمال عبارات ذميمة أو تحقيرية او ألفاظ تنطوي على التمييز في حق أي شخص من المتجمهرين، او معاملته معاملة مهينة او حاطة بالكرامة، مهما كانت الأفعال الصادرة عنه، مع التحلي بضبط النفس، وتفادي الانسياق وراء الاستفزازات الرامية إلى دفع عناصر الأمن لارتكاب أفعال لا إرادية، والتي قد تستغل في حملات دعائية مغرضة للنيل من المكتسبات الحقوقية التي راكمتها بلادنا في مجال احترام حقوق الانسان …)
قد يخيل للقارئ الكريم أن هذا المقتطف هو جزء من بلاغ منظمة حقوقية غير حكوميةONG،ولكن واقع الامر غير ذلك ، فهو جزء من المذكرة المصلحية الصادرة في ابريل2015 عن المديرية العامة للأمن الوطني ، والتي يمكن اعتبارها بحق أكثر تدعيما للبعد الحقوقي خلال عمليات حفظ النظام، لأنها ألزمت الأمن بوجوب الموازنة بين استعمال القوة وبين الأفعال والجرائم الموجبة للتدخل الأمني مع مراعاة الأحكام المنظمة لحالة الدفاع الشرعي..
هنا يبدو التساؤل مشروعا عن التفاوت البين بين ماتدعو إليه مذكرات المديرية العامة وبين أجرأتها على أرض الواقع….أين مكمن الخلل ؟ هل في محدودية التكوين الحقوقي لدى بعض من يعهد إليهم لفض التجمهر…؟ هل في عدم الاطلاع الكافي على ما تنشره المديرية من مذكرات ودوريات ..؟ هل ارتفاع منسوب الاحتجاج في السنوات الأخيرة وتنوع مستوياته ومظاهره أثقل كاهل الوحدات الأمنية المكلفة بمهام حفظ النظام..؟
إن المذكرات المصلحية الصادرة على التوالي عن المديرية العامة للأمن الوطني :
_ 2فبراير 2013
_13اكتوبر2018
_26مارس2019
كلها تسير في اتجاه تأكيد ضرورة تصوير عمليات المحافظة على النظام ، وهي بذلك تسهم في إشاعة ثقافة تصوير التدخلات والعمليات النظامية بين صفوف جميع العاملين في مختلف التشكيلات المعنية بحفظ النظام . ولما كانت الصورة مصدرا من مصادر المعلومة فالحصول عليها من طرف كل من يطلبها (نيابة عامة، قضاء، جمعيات حقوقية..إلخ) يعد حقا دستوريا و مظهرا من مظاهر الديمقراطية التشاركية
من البديهي لدى الجميع : الدولة والمجتمع أو الحكومة والمواطنون … إن قوات حفظ النظام تعمل في خط تماس قريب جدا من الحقوق والحريات الفردية والجماعية..، وفي هذا الصدد أصدرت المديرية العامة للأمن الوطني المذكرة المديرية في 8 شتنبر 2014 التي أكدت على : ((أن تكون جميع الأعمال النظامية التي تقوم بها مصالح الأمن الوطني، سواء لتفريق التجمهرات او لتأمين التجمعات الكبرى أو لمواكبة الحشود…. متوافقة مع قانون الحريات العامة ومع المقتضيات الإدارية ذات الصلة وان يتم توثيق كل تدخل أمني بمحاضر قانونية وتسجيلات سمعية بصرية…))
بناء على ما تقدم ، نقول أن الاحتجاج ليس شأنا أمنيا وإنما هو شأن حكومي .فالأمن هو جهاز من بين إختصاصاته ، حفظ النظام العام ،وضمان سير المؤسسات والحرص على سلامة السير والجولان ، وتلقي شكايات المواطنين، والحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة…… أما الحكومة فشأنها ترتيب الاولويات والانعكاف على تدبير الملفات، التي يشكل عدم حلحلتها فتح الباب أمام الاحتقان الشعبي المفضي حتما الى الاحتجاج مادام الحزب والنقابة تواريا عن المشهد السياسي والاجتماعي لتحل محلهما التنسيقيات القطاعية كتعبير واضح عن سحب الثقة من الوسائط التقليدية. لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تراهن الحكومة بشكل مطلق على الأجهزة الأمنية باختلاف تشكيلاتها لأن مهام هذه الأجهزة هو حفظ النظام وليس بناء السلم الاجتماعي، فهذا الأخير من مهام الحكومة المنتخبة﴿﴿ نعود في هذا الصدد بالقارئ الكريم الى تجربة حكومة التناوب التي حققت السلم الاجتماعي بفتح حوار شامل مع الشركاء الاجتماعيين والاقتصاديين والدولة وبعده باشرت عملية هيكلة المشاريع الكبرى بعيدا عن الاحتقان والاحتجاج﴾﴾
قلت إن بناء السلم الاجتماعي من مهام الحكومة المنتخبة، ومجاله هو الانكباب على انتاج تشريعات تسد الفراغات القانونية، ومجاله ثانيا هو فتح قنوات الحوار مع الفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين وحتى السياسيين، والا كيف نفسر الشعارات التي رفعت في مسيرة يوم الاحد 29 ماي بالدار البيضاء التي تحولت إلى وقفة…(نريد دولة مدنية لا دولة بوليسية)
إن الخلط بين السلم الاجتماعي و حفظ النظام (رغم كونه مفهوما فضفاضا)، واختباء الحكومة وراء الأجهزة الأمنية يجعل البعض يعتقد ان هذه الأجهزة هي ضد المطالب المشروعة لكافة الفئات المحتجة في حين الحقيقة غير ذلك ،لأن ضعف الحكومة في التدبير والتسيير وعجزها عن حلحلة الملفات الحارقة، والإغراق في الانتظارية، والانعكاف على قضاء المصالح الخاصة أو الحزبية، وتبني سياسات غير اجتماعية….كل هذا يولد الاحساس بالظلم إزاء الفوارق الصارخة في مستويات العيش وتوزيع الثروة
إن ممارسة فعل المنع على الاحتجاج في الشارع العام ،رغم ان هذا الاحتجاج مؤسس له في الوثيقة الدستورية 2011, فلا أرى له إلا تفسيرا واحدا هو محاولة الحد من ظهور سلطة مضادة :حركة اجتماعية قادرة على الاحتجاج الدائم على السياسات العمومية أو بتعبير اكثر وضوحا : مأسسة الشارع كفضاء وحيد للمعارضة، وكأننا نعود الى زمن أثينا.
كنا قد تفاءلنا خيرا بالتقدم المحرز في قانون الجمعيات الذي تم اعتماده في 2002 من خلال توسيع نطاق الحريات واحترامها وإدراج مقترحات لحماية المدافعين عن حقوق الانسان، والوسطاء الاجتماعيين، ورواد العمل التطوعي، لان هذا هو السبيل الوحيد لترسيخ قيم الديموقراطية وسيادة القانون في المجتمع وتجفيف كل المنابع التي قد تغدي شرايين الفساد. باختصار حان الوقت لإعادة النظر في العلاقات السياسية بين الدولة والجمعيات والمجتمع : فشرعية المؤسسات إنما تؤخذ من المجتمع والجمعيات لا من الدولة، وقوة الدولة إنما تقاس بقوة ورفاهية مجتمعاتها وليس بشيء آخر