في البداية أود أن نتفق أن الاحتجاج تعبير نضالي يجب أن تحميه الدولة، باعتباره وسيلة من وسائل جس نبض الشارع للوقوف عند حدود مطالب الفئات المحتجة، و بالتالي إلزام الحكومة بحلحلة الملفات بحسب الأولويات، و إلا فما دور الحكومة؟ ولماذا سميت كذلك؟
لقد أضحى المجتمع أكثر تقدما بالقياس مع أجهزة الدولة الأمنية، التي تجد نفسها في موقف حرج أمام أشكال جديدة من الاحتجاج مغرقة في السلمية وذات مطالب مؤطرة بقوانين ودستور المملكة نالت بعضها صيتا و إعجابا دوليا لعل أبرزها ما عبر عنه جمهور الرجاء الرياضي.
على الدولة من خلال أجهزتها الأمنية أن تنأى بنفسها عن التدخل المباشر في الاحتجاجات مادامت سلمية ومحافظة على النظام العام، و ما دامت ترفع فيها شعارات ذات طبيعة اجتماعية أو ثقافية أو حقوقية أو بيئية يضمنها دستور المملكة و تحميها الاتفاقيات الدولية التي يعتبر المغرب طرفا فيها.
فتدخل الدولة كل لحظة و حين شكل ملاذا آمنا للحكومة، و يعفي هذه الأخيرة من تدبير الملفات، بل يبرئها من مسؤولية ما سيقع، في حين أن العكس هو الذي يجب أن يحصل حتى تبقى الدولة على مسافة مما يقع في الشارع و تتحمل الحكومة كامل مسؤولياتها ما دامت منبثقة عن صناديق الاقتراع.
إن الدولة اليوم تعي جيدا أن السياسة لم تعد تمارس في مقرات الاحزاب أو حتى في البرلمان بغرفتيه، بل إن مكانها أصبح هو الشارع ، و على الدولة أن تحمي الشارع من تعسف الحكومة أولا و تمأسسه ثانيا، باعتباره يشكل صوت المعارضة، فالجماهير بحسها السياسي أدركت أن المعارضة انتفت من البرلمان و المؤسسات بفعل ما عرف منذ أواسط التسعينات بعمليات التوافق، فتأسست (الكتلة) سليلة الأحزاب التاريخية و في مقابلها تأسس (الوفاق) خليط الأحزاب الإدارية و تحالف اليمين مع اليسار و داب بينهما الوسط، و دخل رجل المال إلى البرلمان، فانسحبت الديمقراطية الفتية و انزوت و و نأت بنفسها عن ممارسة السياسة.
إن المغرب انتقل من منتصف التسعينات من الصراعات الاجتماعية الأفقية (بين الطبقات الاجتماعية / مصالح مادية و فئوية أو رمزية..)، إلى الصراعات الاجتماعية العمودية ( حول القيم المرتبطة بالمواطنة و العدالة و المساواة بين الجنسين و الحق في الاختلاف و مناهضة الانتهاكات و أشكال العنف و حماية البيئة).
و في رأينا أن ارتفاع حدة الاحتجاجات نابع أساسا من عدم قدرة الحكومات على تدبير مرحلتين أساسيتين من التنمية ( التنمية البشرية و التنمية الإنسانية )، فالمجتمع بفعل الانفتاح الثقافي و بفعل دينامية المجتمع المدني انتقل من مطالب التنمية البشرية رغم عدم اكنمالها إلى مطالب التنمية الإنسانية في حين أن الدولة مازالت تراوح مكانها ضمن متاهة التنمية البشرية.
و هذا سيخلف صداما متواصلا بين المتظاهرين و بين الأجهزة الأمنية، و هو صدام لا نرى نهاية له في الأفق المنظور. لأن تحرير أسعار المحروقات و تحرير أسعار أغلب مواد الاستهلاك، غذائية أو غير غذائية، و فتح الباب على مصراعيه أمام تعميق التفاوتات الاجتماعية و الخضوع المطلق إلى إملاءات صندوق النقد الدولي ( تجدر الإشارة إلى سابقة خطيرة و هو حضور مركزيات نقابية لجولات الحوار بين الصندوق و الحكومة المغربية، و هذا لعمري تأكيد لغياب دور المعارضة من داخل المؤسسات الدستورية.
(يتبع)