كشفت جائحة كورونا عن الحاجة إلى مسايرة ركب العصر الرقمي في ظل تشديد الإجراءات الاحترازية و على رأسها التباعد الإجتماعي . الكثير من المؤسسات العالمية أرغمت في بدايات انتشار الجائحة على الإستعانة بأدوات تكنولوجيا الإتصال الحديثة لضمان الإستمرار و الإستدامة و الخروج من ورطة عدم القدرة على إستضافة الخبراء والمختصين و غيرهم من الضيوف بالأستوديو هات الإخبارية .
و كان لدى هذه المؤسسات، و التي إنخرطت مبكرا في تبني إستراتيجية رقمية من خلال مواكبة متغيرات العصر الرقمي والإعتماد على الأدوات الرقمية في الوصول إلى الجمهور و الاشتغال وفق ما تتيحه هذه الأدوات من إمكانيات واسعة ، خيار آخر يرتبط بالحرص على صحة العاملين و تفادي حالات الإصابة في صفوفهم من خلال حثهم على العمل عن بعد لدرجة أن بعضهم كان يقدم برامجهم الأسبوعية من بيوتهم الخاصة .
على مستوى العالم العربي ، تشكل شبكة الجزيرة المثال الأبرز بحيث بادرت إلى إنشاء وحدة الإعلام الجديد في سنة 2006 و القطاع الرقمي للشبكة في سياق إستراتيجة تتلاءم مع حتمية مواكبة مستجدات العصر الرقمي ، و ما أحدثه من متغيرات جذرية غير مسبوقة على مستوى تغير أدوات الإشتغال و متطلبات و أنماط الجمهور المستهدف .
و يجمع الخبراء والفاعلون المهنيون و الأكاديميون على أن جوهر تأثير جائحة كورونا على الإعلام عموما و الحاجة إلى إعتماد مقاربة رقمية في المؤسسات الإخبارية سيتضح أكثر هذه السنة الجارية .
ففي تقرير صادر عن معهد رويترز ” تنبؤات الصحافة ووسائل الإعلام والتكنولوجيا في 2021” ، بناءا على استطلاع واسع النطاق، شارك فيه 234 رئيس تحرير ورئيس تنفيذي ورواد التكنولوجيا الرقمية، من 43 دولة، حددوا فيه اتجاهات الإعلام التقليدي والجديد ، تم التأكيد على أنه ” في هذا العام سوف تختبر المؤسسات نماذج هجينة جديدة ومستدامة لغرف الأخبار، تجمع بين الحضور الشخصي وممارسات العمل عن بعد، مع إيجاد التوازن الصحيح بين الكفاءة والإبداع”. و سيتم –حسب ما جاء في التقرير – التركيز أكثر من ذي قبل على الصحافة المتخصصة وخصوصا الصحافة العلمية و استثمار غرف الأخبار في محتوى الصوت والفيديو في الإنترنت .
كما تنبأ التقرير بإستمرار وتيرة الابتكار بكل قوة هذا العام مع تسريع الشركات والمؤسسات الإعلامية لخططها الرقمية و التركيز على الإبتكار المستدام في تنسيقات رقمية جديدة ، إذا أرادت إشراك الجماهير بنجاح على المنصات التي يختارونها لاستهلاك الأخبار، مع الحاجة إلى التركيز بشكل أكبر على التفاعل والتصميم المرئي.
لم يكن الإعلام المغربي بمختلف أشكاله مهيأ للعمل وفق ما أحدثته جائحة كورونا من متغيرات على صعيد الممارسة المهنية والتعاطي مع الموضوع و حاجة المتلقي المحلي إلى المعلومة بحيث تزامن إنتشار الجائحة عالميا مع ظهور وباء اخر لم يكن أقل ضررا : وباء التضليل الإعلامي infodemic . أثرت هذه الجائحة على المقاولة الصحفية وبرزت أهمية الإبتكار والبحث عن حلول الإستدامة بالنسبة لعمل غرف الأخبار في الصحافة المكتوبة وغيرها .
و طبقا لمعطياتُ البحث الذي قامت به “المندوبية السامية للتخطيط” خلال أبريل 2020 حول تأثير فيروس كورونا على الوضع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي للأسر المغربية، ” إن أرباب هذه الأسر يستخدمون لمتابعة الأخبار عن تطور جائحة كورونا كوفيد بشكل رئيسي ، الراديو والقنوات التلفزية الوطنية (المغربية) بحصة بلغت 87%. و بالتالي أعاد ذلك نوعا من التألق للإعلام العمومي و التقليدي بصفة عامة بعد أن ضجت مواقع التواصل الإجتماعي بالأخبار الزائفة . بيد أن ذلك التألق كان مؤقتا ، و لا يعني بالضرورة النشوة بالنجاح النسبي ، و إغفال الإختلالات العميقة التي يشهدها الإعلام المغربي في ظل إنحسار الإشهار و ضعف الموارد المالية و غياب الإبتكار و البحث عن حلول قادرة على الإستدامة .
بالرغم من المحاولات التي تقوم بها بعض المنابر الإعلامية التلفزية مثل ميدي ان تيفي و كذلك إدارة القطب العمومي من أجل توفير خدمة رقمية ومواكبة تطورات الممارسة المهنية ، إلا أنه يتعين في الوقت الراهن وضع إستراتيجية متكاملة تبدأ بحتمية تأسيس وحدات للقطاع الرقمي بالمؤسسات الإعلامية التقليدية و تطوير وتحديث غرف الأخبار و تعزيز القدرات الرقمية للفاعلين المهنيين .
التحول الرقمي خيار حتمي تنهجه الدولة في جل القطاعات ، ولايمكن أن يبقى الإعلام متخلفا عن الركب في ظل تغير أدوات الإشتغال و متطلبات الجمهور المستهدف أغلبه من فئة الشباب “الجيل الرقمي الأصلي “digital natives” والذي يعتمد بشكل أساسي على نمط إستهلاك المحتوى الرقمي للحصول على المعومات والأخبار .