في خضم التحولات المتسارعة التي شهدها العالم منذ مطلع الألفية الثالثة، خصوصا منها السياسية والعسكرية والمناخية..، وجدت الدول والحكومات نفسها في مواجهة تحدي الحفاظ على أمنها المائي والغذائي، إذ أنه الضامن الأساس لأمنها القومي، خصوصا في عالم رأسمالي تطغى عليه الفردانية والمصالح الخاصة لكل دولة،
وبما أن المغرب جزء لا يتجزأ من هذا العالم، فقد دفعته الأزمات المتوالية التي شهدها العالم ونذكر على وجه الخصوص أزمة كوفيد19 ، و الحرب الروسية الأوكرانية والتغيرات المناخية إلى إعادة النظر في مسألة السيادة الداخلية ،وفي ظل كل هذه التحديات بات من الصعب
على أي دولة مهما غرتها فكرة اكتفائها الذاتي أن تؤمن أمنها المائي والغذائي بمعزل عن الدول الأخرى، أي أنه وجب في هذا الصدد البحث عن تحالفات لإحداث توازنات على عدة مستويات بما فيها الماء والغذاء.
«قال عز وجل شأنه:” وجعلنا من الماء كل شيء حي”. صدق الله العظيم.
الماء وحدة طبيعية وعنصر حيوي ومهم في كافة القطاعات الإنتاجية، وعليه فإن الموارد المائية تطرح نفسها بإلحاح، ذاك أن المغرب يمر بمرحلة جفاف صعبة وهي الأكثر حدة من أكثر من ثلاثة عقود، وإننا نسأل الله بأن ينعم علينا بالغيث النافع ، لذا ندعو أخذ إشكالية الماء بالجدية الكافية ، ويجب القطع مع كل أشكال الاستغلال العشوائي وغير المسؤول لهذه المادة الحيوية»..
(مقتطف من خطاب الملك محمد السادس بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية التشريعية الحادية عشرة).
بعد إشارات صارخة وواضحة عن الخطر الذي بات يهدد الأمن المائي بالمغرب،أكد الملك محمد السادس خلال خطابه بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية التشريعية الحادية عشرة
على أن الموارد المائية بالمغرب باتت تسائل الجميع وتقتضي التحلي بالأمانة والمسؤولية في التعامل معها..، ورد خطاب الملك هذا بعدما أجمع كثير من الخبراء على بلوغ المغرب ما يسمى بمرحلة الإجهاد المائي الحاد بمتوسط أقل من 500 متر مكعب..
، وفي هذا الصدد أصدرت وزارة التجهيز والماء عدة تقارير تبين عن الوضعية الخطيرة التي بلغها المغرب في مجال الأمن المائي،وكان جليا من خلال هذه التقارير ارتفاع نسبة الواردات المائية للمغرب مابين 2021 و 2022 بمعدل مقداره 1.98 مليار متر مكعب..
وتجدر الإشارة إلى أن نقص الموارد المائية يتباين من جهة إلى أخرى داخل نفس البلد، وذلك حسب الخصائص المناخية لكل منطقة على حدة؛
لكن جهة طنجة- تطوان-الحسيمة كأول جهة كانت تسجل أعلى مستويات التساقطات في السنوات السابقة،غدت مؤخرا تعيش على وقع أزمة ندرة المياه،بالرغم من أنها تتوفر على مخزون مائي كافي لتغطية وتأمين مياه الشرب لمدة لا تتجاوز على الأكثر 3سنوات…
أما بالنسبة للأنهار المغربية الأكثر شهرة باحتوائها لكميات مياه وفيرة على مدار عقود كثيرة، باتت اليوم تنضب تدريجيا جراء ضعف كميات التساقطات المطرية والتوالي المطرد لسنوات الجفاف والضغط الكبير الذي يمارسه الإنسان على الموارد المائية..،
وعليه فقد جف نهر أم الربيع وقبله جف نهر ملوية؛ حيث وبحسب وزارة التجهيز والماء بلغت حقينة سد واد أم الربيع 464.50 مليون متر مكعب، أي ما يعادل 9.3٪ خلال 2022، مقارنة مع سنة 2021 التي بلغ فيها 1.046 مليار متر مكعب بما يعادل 21.12٪ ، كما أن سد المسيرة سجل أدنى نسبة ب 5.62٪ ، فيما بلغ سد بين الويدان 13.74٪، أما سد الحسن الأول فسجل نسبة ملء بلغت 13.89٪…
ويعول المغرب بشكل جد قوي على “المخطط الوطني للماء” ،الذي يرمي إلى التخفيف من حدة تفاقم مشكل ندرة المياه ،خاصة وأن عدة مؤشرات تحيل إلى استفحال هذه الندرة مستقبلا بشكل قوي،كما يستهدف هذا المخطط ضمان الأمن المائي للمغرب في أفق 2030..
وتفاعلا مع حالة الطوارئ المائية التي أعلنتها الحكومة، تظافرت جهود عدد من الفاعلين للحيلولة دون تفاقم الوضع، ومن جملة التدابير التي أعلن عنها في هذا الإطار نذكر كنماذج:
وضع حد للزراعات التي تستنفذ الكثير من الفرشة المائية مثل البطيخ الأحمر خاصة في المناطق التي تعرف شحا في الأمطار والفرش المائية، والدعوة إلى تبني حس المسؤولية خلال القيام ببعض الأنشطة المنزلية أو خارج البيت (غسل الأواني المنزلية- غسل السيارات- ملء المسابح..)،ومراقبة التسربات المائية ومعالجتها..
كما أعلن وزير الفلاحة والصيد البحري محمد صديقي عزم المغرب على وقف زراعة الخضر والفواكه المستنزفة للفرشة المائية وتعويضها بزراعات نباتية أخرى قادرة على التأقلم مع التغيرات المناخية ومدرة للدخل..
ونوهت الخبيرة في الموارد المائية شرفات أفيلال بجهود المسؤولين في هذا الصدد، كما أشارت إلى أن هذه التدابير خففت بشكل طفيف ونسبي من الأزمة، لكنها لا تستبعد حدوث استفحال الوضع بشكل قوي في ظل توالي سنوات الجفاف..،
وتضاف إلى كل ما تمت الإشارة إليه آنفا من تدابير” تحلية مياه البحر ومعالجة المياه العادمة” ؛ حيث اتجهت العديد من جهات المملكة إلى تبني هذه الوسيلة لما لها من فاعلية في توفير مخزون مائي جد مهم، ويتم اعتماد الطاقات المتجددة الهوائية والشمسية في هذه العملية نظرا لتكلفتها المنخفضة..
ويعتبر الخبير محمد بنعبو أن تحلية مياه البحر خيار استراتيجي للتعامل مع مشكل الإجهاد المائي إلا أنه ليس الوسيلة الأنجع الضامنة لخروج البلاد من هذه الأزمة، حيث أن هناك سبل أخرى يأتي في مقدمتها بناء السدود،بعدما ظهرت فاعليتها في توفير خزان احتياطي للمياه..
ويبقى في نهاية الأمر الحل الأكثر استدامة والأقل تكلفة هو نهج حكامة جيدة في التعامل مع الموارد المائية ،واعتماد تدبير مستدام يراعي القدرات المائية للبلاد ومناخها الجاف والشبه جاف…
بيد أن مشكل ندرة المياه وانخفاض التساقطات المطرية المطرد بات يهدد قطاعات أخرى لارتباطها الوثيق بالتساقطات ، يأتي في طليعة هذه القطاعات القطاع الاقتصادي، ذاك لأن الاقتصاد الوطني يعتمد بشكل شبه كامل على القطاع الزراعي،الذي يعد وطنيا من أكبر القطاعات استقطابا لليد العاملة 38٪ ، كما يوفر أزيد من 55٪ من الحبوب سنوياً (السنوات الخصبة) ،
وقد عرف القطاع الزراعي مؤخرا تضررا جليا بسبب الجفاف،حيث تراجعت المحاصيل الزراعية بشكل بارز كما انخفض الاقبال على الاشتغال في هذا المجال، وتراجع مستوى النمو فيه ليبلغ 0.8٪ بحسب آخر إحصائيات البنك المركزي..، وفي ظل هذه الأزمة الحاصلة يتبادر إلى الذهن سؤال بارز حول الوضعية الغذائية في المغرب وفيما إذا كان المغرب قادرا على تغطية الحاجيات الغذائية بشكل عادي للسكان؟!
بحسب الحسن حداد( وزير مغربي سابق وعضو في مجلس المستشارين) فالأمن الغذائي يشكل تحديا كبيرا من أبرز التحديات التي تهدد كثير من الدول حول العالم وليس المغرب فقط ، وذاك راجع بالأساس للانفجار الديموغرافي الحاصل في جل دول العالم،
إضافة إلى التغيرات المناخية مثل الفياضانات والتصحر والجفاف التي باتت تعصف باقتصاديات كبريات دول العالم، وأوضح لحسن حداد بأن الجائحة الوبائية لكوفيد 19 التي عاش العالم على وقعها خلال السنتين الأخيرتين عمقت من مخاوف بعض الدول حول قدرتها على ضمان الأمن الغذائي لمواطنيها.
وفي هذا الصدد تقول منظمة ” أوكسفام الأمريكية” بأن المجاعة لا تتمثل في ندرة الغذاء فقط، لكنها أمر معقد قد ينتج إما عن ظاهرة الجفاف أو عن نزاع مسلح أو عن عملية ترحيل قسرية، لكن الأمر يصير أكثر حدة حين تتقاعس الحكومات عن اتخاذ كافة التدابير اللازمة لتخفيف وطأة الوضع على المواطنين، وهو ما أسماه كريس هوسفارد بالفضيحة السياسية، إذ أنه يعتبر أن المجاعات الغذائية ليست قدرا محتوما، لكنها فعل إنساني يتعلق بالحكامة والمسؤولية…
وتبين آخر الأبحاث في هذا الصدد عن تراجع المغرب بتلاث درجات في مؤشرات الأمن الغذائي حيث حل في المرتبة 57عالميا من بين 113 دولة شملها المؤشر.
المؤشر الصادر عن مؤسسة إيكونوميست راعى خلال تصنيفاته عدة اعتبارات،من بينها القدرة على تحمل التكاليف التي حل فيها المغرب في الرتبة 52 عالميا، والجودة والأمن اللذان حل فيهما في الرتبة ال50 عالميا، ثم الموارد الطبيعية والقدرة على الصمود..
وفي تصريح له أوضح الخبير الاقتصادي عبد النبي أبو العرب أن الأمن الغذائي مرتبط بمدى وفرة المنتجات الغذائية الأساسية بصفة كافية للاستهلاك الداخلي وأسعارها لتكون في متناول الجميع، وأشار إلى أن الظروف والأزمات التي يعرفها العالم مثل الحرب الأوكرانية الروسية وأزمة كوفيد19 والجفاف الحاد…كلها عوامل باتت تهدد الأمن الغذائي داخليا.
وفي هذا الصدد تصدرت إسرائيل دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مؤشرات الأمن الغذائي متبوعة بقطر ثم الكويت،وبعدها الإمارات العربية المتحدة،فعمان والبحرين والسعودية وتركيا،ثم الأردن والجزائر،فتونس والمغرب، وعلى الصعيد العالمي حلت إرلندا في المرتبة الأولى متبوعة بأستراليا والمملكة المتحدة،وفلنندا ثم سويسرا..
ولكن وبالرغم من كل هذا تبقى الأسواق الدولية منفذا غير آمن ولا متاح في كل الظروف، حيث يجب الأخذ دائما بعين الاعتبار التوثرات السياسية والعسكرية وكذا مضاربات الأسعار،إضافة إلى ابتزازات الدول المصدرة للمنتجات الغذائية..
وقد نبه تقرير مجلس المستشارين حول الأمن الغذائي بالمغرب إلى وجود عدة تحديات تواجه ضمان الأمن الغذائي للمغاربة، على رأسها عدم تحقيق الاكتفاء الذاتي في المواد الأساسية وارتفاع الواردات الغذائية على حساب الصادرات،
ويشكل القمح أحد أهم واردات المغرب خلال العشر سنوات الأخيرة،إضافة إلى السكر في ظل الانخفاض المسجل في المساحات المزروعة المخصصة للسكر، كما لفت التقرير إلى أن المغرب يحقق الاكتفاء الذاتي في اللحوم والحليب والسمك، لكنه يسجل عجزا كبيرا على مستوى إنتاج الزيوت…
وعن هذه الوضعية الغذائية المتأزمة تتمخض عدة نتائج صحية بالأساس من بينها الهزال والتقزم ونقص الوزن وانتشار فقر الدم بين الأطفال كنتيجة للنقص في مادة الحديد…
فيما سبق، كانت قد وضعت عدة مخططات استراتيجية ( مخطط المغرب الأخضر 2008 – مخطط الجيل الأخضر 2020) ، إلا أن كافة التحليلات الخاصة بتقييم مدى فاعلية هذه المخططات تبين عن عدم قدرتها على المعالجة الشاملة لقضية الأمن الغذائي الوطني،
كما لا ننسى الارتفاع الصاروخي في أسعار المواد الغذائية الأساسية التي بات يعيش المغاربة على وقعها مؤخراً،ما أدى بعدة أسر ذات الدخل المحدود إلى الكف عن استهلاك عدة مواد وتعويضها بمواد أخرى أقل تكلفة…
وفي ظل كافة التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية المحيقة بالبلاد تبرز الحاجة إلى إعادة رسم خارطة جديدة للإنتاج الفلاحي على أساس قواعد دقيقة تضع حاجيات الشعب في أولى الأولويات قبل التوجه إلى تلبية متطلبات السوق الخارجية..
وعليه يجب اعتماد كحلول لهذه الأزمة؛ حماية جيدة وتكثيف واسع لمنظومة النخيل، وتشجيع الزراعات المستدامة ذات القيمة المضافة المرتفعة،وتربية النحل والرخويات(الحلزون)، وإحداث مشاريع عملاقة للإنتاج الصناعي فيما يتعلق بالأسماك وتربية الأحياء المائية،
وتقوية الاكتفاء الغذائي وتقليص نسبة التبعية الغذائية، واعتماد آلية الإنذار المبكر والاستباقي للمخاطر التي تهدد سلاسل الإنتاج والإمداد…