- لوزارة العدل تجربة كبيرة في تنظيم امتحانات الأهلية لمزاولة مهنة المحاماة، وجميعها مرت في ظروف عادية، ودون أن تثير سخط المتبارين على النتائج، بل ولم يسبق أن أثيرت مباراة مثل هذا المستوى من الاحتجاجات، لماذا الآن؟ وما الذي تغير؟
في الواقع، ذلك يعود للخروقات القانونية والتنظيمية والفنية العديدة التي شابت قبل وخلال إجراء هذه المباراة، وحتى بعد الإعلان عن النتائج. وهو ما لم يسبق وأن حصل من قبل في أية مباراة للأهلية. صحيح أنه كانت تصلنا أحيانا إشاعات من قبيل أن فلان قد نجح نتيجة تدخل حزب سياسي ما، وأن علان قد حظي بتزكية شخصية اعتبارية ما، لكن كل ذلك كان يتم في نطاق جد محدود، لا يمس في الصميم بتكافؤ الفرص ولا بالسياق العام للاختبار، الذي يمر عموما في أجواء تتسم بالشفافية، بدليل لم يكن أحد يحتج على النتائج. لكن اليوم حناجر المتبارين تتعالى تنديدا واحتجاجا على النتائج. وعلينا الإقرار بكون خرجات وزير العدل الإعلامية لم تكن موفقة، بل وكارثية، وشكلت إحدى أهم العوامل التي ساهمت في تصاعد حدة ردود الأفعال والاحتجاجات، والتي ما كانت ستصل لهذا المستوى وتبلغ هذا المدى لو أن الوزير أحسن وأجاد التواصل، أو على الأقل لو لاذ بالصمت لكان أسلم له وأفضل للجميع.
- لماذا في نظركم هذه الموجة من الاحتجاجات؟*
لأن المترشحون والمترشحات تعرضوا للغبن، ويشعرون بأنه قد جرى التلاعب بهم وبنتائج اختباراتهم. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، سُجل جملة من الخروقات، فلم يتم الالتزام ببرنامج الاختبار الكتابي المعتمد في الجدول الوصفي للامتحان؛ وتُرك المتبارون في حالة تخبط دون تقديمات شروحات حول طريقة الاختبار، حيث لم يتم اخبارهم أن الإجابات الخاطئة تؤدي إلى خصم نقطتين. علاوة على ذلك، مسألة أخرى سُجلت أيضا تتعلق بعدم احترام معيار النجاح المحدد في الحصول على 80 نقطة كمعدل إجمالى لكل مترشح. وهذه الخروقات تعد أسباب وجيهة وكافية ليحتج المتبارون على النتائج. ونؤكد مرة أخرى أن ما أدى إلى تصاعد وتيرة الاحتجاجات هي تصريحات وزير العدل وخرجاته الإعلامية التي فيها الكثير من التعالي ومن الاستفزاز لفئة هشة من المتبارين، يشعرون بأنهم تعرضوا للحيف على امتداد حياتهم، واليوم وقع الظلم كان أَمر عليهم وأشد. خاصة، وهم يرون الأسماء الواردة في لائحة المتفوقين، وجلهم لعائلات وازنة على ارتباط بسلك العدالة.
- ما هي الأسباب التي دفعت وزارة العدل لاعتماد الاختبار على الطريقة الكندية؟
اعتقد أن القرار كان شخصيا بأمر من الوزير نفسه، لذلك يستحسن قول الوزير، وليست الوزارة. في الواقع، لم يسبق أن اعتمد من قبل هذه الطريقة في مباراة الأهلية لولوج مهنة المحاماة. لا أجد سببا منطقيا يبرر هذا الاختيار من الناحية البيداغوجية أو المنهجية، خاصة وأن المحاماة مهنة الترافع بامتياز، وبالتالي منهجية الاختبار التي كانت تعتمد من قبل كانت مناسبة لجوهر المهنة، وفعالة وناجعة، إذ تتيح قياس قدرة وامكانيات كل مترشح على الترافع، لأن الترافع له شقين، شق كتابي وشق شفوي، ولهذا فالاختبار يمر بمرحلتين كتابي، ثم شفوي. وهنا في هذا الباب وزير العدل مطالب بتقديم توضيحات الرأي العام. صدفة غريبة أن نجد طريقة الاختبار المعتمدة من لدن الوزارة الوصية هي نفسها المعتمدة في الجامعات الكندية، التي قدم منها ابن وزير العدل، حاملا معه اجازتين حسب تصريح والده.
- كيف تفسر تدني نسبة الناجحين؟ هل الأمر يعود إلى تدني وتراجع في المستوى؟ أم لطريقة الاختبار ونوعية الأسئلة؟ أم أن الأمر يفسر باعتبارات أخرى؟
لابد من الإشارة في البداية إلى أن تدني نسبة الناجحين كان العامل الرئيسي في الاحتجاجات، وثم العامل الآخر ويتعلق بدور تصريحات الوزير في تصاعد وتيرتها. من الناحية العملية، الأ مر يعود إلى أجواء الامتحان غير الصحية والظروف غير الطبيعية التي مر فيها، سواء من حيث مستوى الضبط والجدية، أو من حيث اتسامها بانعدام تكافؤ الفرص. كما أن الأمر يعود لعوامل أخرى، من بينها غياب معايير موضوعية في التنقيط، بل وخضوعه لمزاجية الظروف وتقلبات الأهواء أيضا. وهذا ما يستشف من تصريح وزير العدل نفسه، حينما صرح لوسائل الإعلام بأنه تعرض لضغوط قوية، دون أن يحددها بالإسم، من أجل ألا يتجاوز عدد الناجحين في امتحان الأهلية سقف 500 أو 600 ناجح، إلا أنه، حسب قوله رفض ذلك؛ وأن عدد الناجحين في الأول كان في حدود 800 من المتبارين فقط، لكنه، أي وزير العدل، تدخل شخصيا من أجل رفع عدد الناجحين ليصل إلى ألفين من المتبارين. وهذا التصريح كاف لوحده لنسف كل ما صرح به وزير العدل، وكاف للتأكيد على كون عملية التقييم قد خضعت لاعتبارات أخرى ولمعايير لا علاقة لها بطبيعة الأسئلة وجوهر الامتحان. فليس كل من كان موفقا في إجاباته صعد مركب الناجحين. علاوة على ذلك يكشف لنا هذا التصريح بأن وزير العدل ليس هو صاحب القرار الفعلي، وإنما كان منفذا لتعليمات جاءته من “فوق”.
- كيف ذلك؟ هناك لبس كبير بهذا الخصوص تحديدا، هل من توضيحات إضافية؟
يتضح لنا أن تحديد سقف عدد الناجحين لم يكن في يد السيد وزير العدل، بل يمكنني الذهاب بعيدا والقول بأن وزير العدل شارك في تنزيل القرار المتعلق بتنظيم مباراة الأهلية لولوج المحاماة، لكنه لم يكن هو صاحبه الفعلي. لقد حُدد له التعليمات وسقف الأهداف المطلوب بلوغها، وتُرك له تحديد آلية تنزيلها وتنفيذها.
إلا أن وزير العدل، من وجهة نظري، لم يوفق في تنزيل القرار الذي تُرك له مسألة تصريفه، وعلى عكس تصريحاته فقد أثبتنا أن المباراة لم تكن شفافة بالمطلق، بل شابتها خروقات كثيرة وتجاوزات بالجملة. أعتقد أن التقليص من أعداد الناجحين لا دخل فيه للسيد وزير العدل، بل يندرج في إطار تغير استراتيجية الدولة العميقة، أي الأقلية المتحكمة، ورغبتها في التحكم في خيوط مهنة المحاماة، بعد استشعارها بزيادة نفوذ لوبي أصحاب البذلة السوداء. فئة الشباب، أي هؤلاء الذين ولجوا مهنة المحاماة خلال العشر سنوات الأخيرة، يختلفون اختلاف جذري عن الجيل القديم، سواء في التركيبة أو النظرة للمهنة وتطلعاتهم المستقبلية، أو في نوعية مطالبهم وطبيعة احتجاجاتهم، بعد أن تكتلوا في تنظيم قوي، ركزوا أكثر على المطالب الحقوقية. وأما هواهم السياسي فيتأرجح في معظمه بين الإسلامي (جماعة العدل والإحسان) واليساري (الجذري). وارتباطا بما سبق، يبدو لي وكأن وزير العدل قد جيء به بمهمة وحيدة وواحدة، ألا وهي خلق منافذ وآليات جديدة للضغط على أصحاب مهنة البذلة السوداء، والتأكد من عدم انحرافها مستقبلا عن الخط المرسوم لها. إن تأملنا في قرارات السيد وزير العدل بخصوص تنظيم المهنة سنجدهل لا تخرج عن هذا الإطار. في الواقع، لقد جيء برجل خبر المهنة طويلا، حتى تكون الضربة على يد واحد من أبنائها، وهنا تتجلى رغبة الأقلية المتحكمة ليس فقط في إخضاء الآخر، بل وأيضا في إركاعه. هذا هو نهجها مع من ينحرف عن الخط الذي رسمته وحددته له.
- كيف تفسرون تكرار سقطات وزير العدل، ومعه عدد من وزراء الحكومة؟
هذه السقطات أو الهفوات أو الأخطاء، بصرف النظر عن المسميات، تعكس أزمة نخب، وتوقف الآلة الحزبية عن إنتاج نخب تمتاز بالكفاءة والخبرة، والنضج السياسي. الغريب أن نجد هفوات الوزراء “السياسيين” القادمين من الأحزاب، وسقطاتهم، أكثر من هفوات الوزراء من فئة التكنوقراط، قبل أن يتم إسقاطهم بالمظلات على الأحزاب السياسية. نعلم جيدا أن وزير العدل في وزارته ليس بسبب كفاءته وخبرته، وإنما لكونه أمين عام لحزب سياسي معين. في الأنظمة الديمقراطية تبوأ هذا المنصب يكون نتيجة مسار انتخابي داخلي مستقل، ولا يمكن أن يصل إليه أحد إلا بعد مسار نضالي طويل، وتدرج في مختلف الهياكل الحزبية، أما في المغرب نعلم جيدا أن عوامل أخرى من خارج الإطار الحزبي تتحكم في بلوغ هذا المنصب، ويشترط فيه عنصر الولاء ومدى استعداد المعني بالأمر والتزامه بتنفيذ أجندة معينة، ولا يولى أهمية كبرى لعنصر الكفاءة والعلم والنضال. الخلاصة، مادامت الديمقراطية الداخلية للأحزاب السياسية كالبطة العرجاء، ومادام الفاعل الحزبي في قفص الاتهام، ولا يملك قراره، سنجد دائما وزراء في الحكومات المقبلة يتفاوتون من ناحية الخبرة والنضج السياسي. هذا لا يعني أنه إذا صار الصورة وردية سوف لن يكون لدينا وزراء معصومون، لا يخطؤون أبدا، هذا غير مضمون. لكن الأكيد والفارق، سيكون لدينا وزراء يتحلون بالمسؤولية الأخلاقية والأدبية، وعلى استعداد لتقديم استقالتهم في حالة ارتكابهم لأخطاء شبيهة بهفوات السيد وزير العدل. لماذا؟ لأن تعاقدهم في المقام الأول سياسي ومع الناخب. أما الوزير في المغرب فلا يعطي أهمية لمثل هذه الأمور، مادام يعلم علم اليقين أن عوامل أخرى كانت وراء في استوزاره، ولا دخل لأصوات الناخبين في ذلك.
- كيف ترى طبيعة الاحتجاجات ومآلها؟
أعتقد أن الاحتجاجات أخذت المنحى الصحيح. وهو على العموم احتجاج صحي وايجابي، يثبت حركية المجتمع المغربي، وحيوية فئاته الشابة ونضجها. أنا شخصيا لا أشاطر أصحاب الرأي الذي يقول كيف يمكن لمن يرغب في ولوج مهنة المحاماة وهو لا يتوفر على الملكات الضرورية والمعرفة الأساسية لتقديم طعن في النتائج قضائيا؟ مع كامل احترامي لأصحاب هذا الرأي، فإني أخالفهم في توجههم، وأعتقد أن غايتهم هي تبخيس الشباب، وإبرازهم كفئة تفتقر للكفاءة، وبالتالي فنتيجة الاختبار التي حصلوا عليها تعكس مستواهم الحقيقي. وهذا المعطى منافي للواقع، ويفنده تصريح وزير العدل نفسه في إحدى هفواته الإعلامية. أقول أن عدم توجه هؤلاء الشباب مباشرة إلى المحاكم دليل على نضجهم وعلى ثقافتهم القانونية الواسعة. الاحتجاج ينبغي أن يأخذ منحى متدرج تصاعدي، يكون آخر درج فيه هو مرحلة التقاضي. حسب اعتقادي، فالخطوة الأولى التي بنبغي القيام بها هي استجماع القوى وتوحيدها عبر خلق تنسيقية مثلا، وهو ما تم فعلا، ثم استعراض قوتها من خلال النزول بشكل حضاري للشارع، وهو ما حدث هذا اليوم، وذلك بغية الضغط على الوزارة قصد أن تفتح باب الحوار. إن التقاضي هو آخر مرحلة في هذا المسار النضالي، وذلك حينما يستنفذ الحوار جميع سبله، ولا يأتي بأنصاف الحلول.
- هل يمكن أن تخرج هذه الاحتجاجات بحلول ملموسة؟
الأمر يتوقف على وزير العدل وشخصيته، ومدى مرونته أو صلابته في اتخاذ القرارات التي تتيح أنصاف الحلول. غير أن تصريحات وزير العدل وخرجاته الإعلامية تزيد الوضع تعقيدا، ولا تساعد على ايجاد حل في المنظور القريب.
- هل هناك من احتمال أن يتم إلغاء النتائج وتُعاد المباراة؟*
مستحيل! لكن يمكن أن يتم الاعلان عن موعد لمباراة جديدة، وحسب علمي، فوزير العدل سبق وأن ألمح إلى ذلك. ويبقى السؤال الأهم بهذا الخصوص، هل سيظل في منصبه إلى أن يحين هذا الموعد؟ لا أعتقد ذلك. غالب الظن أن مسألة إعفاء وزير العدل قد حسم فيه، لكن سيتم اختيار الظرفية المناسبة للإعلان عنه، بعد أن تهدأ العاصفة.