كان أبي الحاح عبد السلام، إمام القرية التي ولدت فيها ذات شتاء مجدب قليل الامطار في نهاية ستينيات القرن العشرين الماضي..
و كان في الوقت نفسه معلّمًا محترما مرهوب الجانب ذا كلمة نافذة و سلطان لا يقبل المساومة، في المدرسة الابتدائية ايليغ، على بعد اميال قليلة من تمحضيت.

و كان الحاج عسو كما يحلو لسكان القرية مناداته رمزًا حيا و حقيقيا للتقوى والورع و التمسك القوي بتعاليم الاسلام الحنيف، تعاليم ربنا عز و جل، و سنة نبينا الصادق الامين عليه افضل و ازكى الصلوات و التسليم..
كان ابي الحاج عسو يخاف الله كانه يراه، و يحرص على تلقيننا تلك الحالة من الايمان و الورع ذاتها في كل وقت و حين..
و كان بطبيعة الحال يحظى بتبجيل كل سكان قريتنا الرابضة في حضن الجبل، ليس لانه شديد التعلق بالدين، و لكن لانه مثال و نموذج للتسامح و سعة القلب و الخاطر.
و من جملة ما كان يردده حبيبي في الله و ابي العظيم الحاج عسو هذه الاقتباسات من الفرقان الكريم و السنة النبوية المطهرة :
. لا اكراه في الدين
. انك لا تهدي من احببت و لكن الله يهدي من يشاء
. رب اغفر و ارحم و انت خير الراحمين
. خلق الله ادم على صورته…
و كان حبيبي عسو، كما كان يحلو لي مناداته و نحن نشرب لساعات طوال اكواب الشاي المنعنع الساخنة في ليالي شتاء تمحضيت القارسة البرودة.. كان يُعظّم ديننا الإسلامي داعيا جميع من يعرفهم الى سلوك نهجه، لكن و هذا هو الجميل فيه، دون قهر او غلو او تنطع…
و كان حبيبي عسو ينصحنا بأهمية الصلاة في اوقاتها و فضل الصيام و مساعدة الفقراء و جبر خاطر المساكين، و كان يتلو علينا قصص الحكماء و الأنبياء والسلف الصالح في ليالي الزمهرير أمام مدفأة البيت القديمة.
و كنت أنا، حمو، ابنه الأكبر، أسير في طريق مختلف تمامًا. كنت طالبًا متاثرا بايديولوجية تلك المرحلة، حيث تبنّيت دون حاجة للتفكير توجهًا ماركسيًا علمانيًا. و لم أكن أبدي أي اكتراث للدين، وكنت أعتبره جزءًا من الماضي، و شيئًا لم أعد أحتاجه في حياتي اليومية.
زرع أبي في نفسي حب القراءة منذ الطفولة، وكانت مكتبتنا المنزلية تُعد واحدة من أكبر المكتبات في القرية. كانت تضم نحو 7000 كتاب، أغلبها كتب تراثية وتفاسير قرآنية. لكنني كنت أفضّل ان احضر للبيت جهارا و دون ادنى تخفي كتب الفلاسفة و الكتاب المتمردين العلمانيين و ” الحداثيين”…
و هكذا في ريعان شبابي، قرأت كل أعمال ألبير كامو، ونوال السعداوي، وجان بول سارتر، بالإضافة إلى كبار الفلاسفة مثل نيتشه، هيجل، سبينوزا، وفرويد. كنت أعتبر نفسي ماركسيًا، متحررًا من قيود الدين والتقاليد. وكانت هذه القراءات تفتح لي آفاقًا كنت اعتقد انها تجعلني أرى العالم بمنظور مختلف..
و على الرغم من أن أبي كان يعتبرني في الوعي و اللاوعي الديني لديه مارقًا عن الملّة، إلا أنه كان يجلب لي كل الكتب التي تتفق مع ميولاتي الفكرية، وإن كان يتحفظ على محتواها.و كان يقول لي دومًا: “حبيبي حمو.. المهم أن تقرأ، واصل الشغف بالقراءة.. و اقرا من المهد الى اللحد، فانا ما يهمني شيء واحد: ان تقرا و لا يهمني المحتوى والأيديولوجية التي ستتاثر بها”.
و كان هذا التسامح مثاليا من جانب والدي، و يجعلني انظر اليه بعين التبجيل، كما لو كان ايقونة دينية بل كما لو كان نبيا مرسلا.. و كان يعبر عن حب غير مشروط، حب الوالد لابنه رغم اختلافات الرؤى و المعتقدات.
و في أحد الأيام من عام 2024، قررت العودة إلى تمحضيت لقضاء بعض الوقت مع عائلتي. كنت قد اشتقت لأبي، ولرائحة الكتب القديمة في المكتبة. و عندما وصلت، استقبلني أبي بابتسامة دافئة وعينين تلمعان بالحب.
جلسنا معًا نتحدث عن الكتب والفلسفة والحياة.
و كان من جملة الكتاب و العلماء و الفلاسفة الذين دار حولهم النقاش: ابن عربي و ابن المقفع و ابن خلدون و الفارابي و افلاطون و داروين و هيمنجواي و نجيب محفوظ و محمود درويش و لويس خورخي بورخيس و فرانز كافكا و و بول اوستر… و من المؤكد انه كان ثمة اخرون، و لكن للذاكرة ثقوب يزداد عددها بمرور السنين !
و كنا نصول و نجول و نشرق و نغرب بين الايديولوجيات و التيارات و المذاهب و الاديان المختلفة احيانا حد التناقض، و كان حبيبي عسو بين الفينة و الاخرى يقهقه ضاحكا و يهتف بصوته الرنان المجلل بالفرح:
# انا ممتن لمولانا رب العالمين لانه على مدار كل هذه السنوات قرانا معا كتبا كثيرة مختلفة، انت و انا، و في كل دردشة كانت تجمعنا كنت سعيدا حد الثمالة لانك يا بني قرات كل هذه الكنوز الفكرية، و التي احيانا لا استسيغ محتواها، لكني احترم كتابها و مجهودهم الفكري الخالص في تاليفها، لانه في نهاية المطاف تبقى هذه الاعمال على اختلاف مشاربها و اديان مؤلفيها ارثا انسانيا يعلمنا الحب والتسامح و يجعلنا نتجاوز برحمة و مدد من الله الرحمن الكريم كل الاختلافات و الفروقات..#
حبيبي عسو، ابي العظيم، و مثلي الاعلى، الان، و غدا، و انا اكتب هذه السطور و استلهمها من صداقتنا النموذجية المروية بماء الحب الخالد.. و انا اكتب هذه الكلمات، لدي يقين لا يتزعزع أنك يا أبي تعرف الحياة و اسرارها أكثر مما قد يظن الكثيرون من مجايليك و المحيطين بك.
حبيبي عسو، ان قراءاتنا المختلفة على امتداد ازيد من 45 سنة من الصداقة و الحب اللامشروط اثرت عقلي بشكل مذهل و فتحت لي أبوابًا لامحدودة للتفكير و جعلتني افهم العالم و انظر اليه بالرحمة و بعين القلب..
فليحفظك الله، حبيبي عسو، و ليرزقك الصحة و السلامة و طول العمر و نور البصيرة و البصر..
و الله يخليك لينا بركة ا حبيبي عسو.. !