في خضم الصراع السياسي والإعلامي بين قطر والمملكة العربية السعودية، يلجأ البعض إلى توظيف التاريخ كأداة للضغط والنيل من الخصوم.
ومن بين هذه المحاولات، نجد من ينسب دولة قطر إلى شخصية قطري ابن الفجاءة، الرجل الذي قاد حركة الخوارج في مواجهة الدولة الأموية واشتهر بتطرفه ودمويته.
بقدر ما كان ابن الفجاءة خطيباً مفوهاً وأديباً مؤثراً، إلا أن اسمه ارتبط بالعنف والتمرد، مما جعل خصوم قطر يستخدمون تاريخه لتصوير الدولة الحديثة كاستمرار لهذا الإرث. ولكن، هل يمكن فعلاً قراءة الحاضر من خلال تشويه صفحات الماضي؟ وهل يعكس هذا الربط بين قطر وقطري ابن الفجاءة حقيقة تاريخية أم هو مجرد أداة للصراع السياسي؟
من آثار الخالدين، سنتعرف على قطري بن الفجاءة، الذي يُعتقد أن دولة قطر استمدت اسمها منه. كان زعيمًا للخوارج الأزارقة، وتميز بشجاعته في مقاومة الدولة الأموية. ورغم عدم التأكد من العلاقة المباشرة، يظل قطري رمزًا للتحدي والقوة، مما يثير التساؤلات حول تأثيره في التسمية والتاريخ المتشابك للمنطقة.
1من هو قطري؟
لا يبرز الكثيرون من أمثال قطري، إلا عندما يكونون رقماً في المعادلة السياسية والدينية، ولذا فلا يعرف أحد عنه شيئاً، قبل أن يلمع نجمه في ساحات المعارك، والنزاعات السياسية.
وُلد في البادية، العام 30هـ، ويذهب البعض إلى أنّ ميلاده كان بموضع بين البحرين وعُمان، يقال له “الأعدان”، وهو مكان يُعرف اليوم بــ”المعدان”، في الجنوب الشرقي من قرية الخوير، شمال دولة قطر.
لكنّ الدار قطني ذكر في نسبه؛ أنّه قطري بن الفجاءة، واسمه الأصلي، جعونة بن عمرو بن تميم المازني، وهو ما يعني أنّ لفظة قطري هي اسم صريح له، وليست نسبة لبلدة في السواحل الشرقية من الجزيرة العربية، كما ذهب بعض المؤرخين.
وحدث في أزمة الخليج 2017 أن سعت المملكة العربية السعودية وحلفاؤها إلى محاولة ربط دولة قطر بشخصية قطري بن الفجاءة، في محاولة لتعزيز مواقفهم السياسية والتأثير على صورتها في المنطقة. وبالاعتماد على هذه المعلومة، عملوا على توجيه الرأي العام الإقليمي والدولي نحو التشكيك في سياساتها ودورها الإقليمي.
2ازدواجية التطرف
قد لا تتفق عقائد فرق الخوارج ، على تعدّدها وتنوعها، مع الجماعات الجهادية المعاصرة، لكن هناك مشتركات أُخَر، في الأداء والنفسية.
لم يكن الخوارج مجرد قتلة تكفيريين؛ بل كانوا يملكون عواطف متدفقة، ومن هنا كانت تكمن إشكاليتهم، وتعقيداتهم المزدوجة، التي يصعب على الدول والمجتمعات تفكيكها.
كان قطري من أصحاب نافع بن الأزرق، الذي خرج على الإمام علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، بعد واقعة التحكيم، وعندما قتل نافع بدأت جماعته في البحث عن خليفة له.
في البداية؛ وقع الاختيار على عبد الله بن هلال،
وكان فارساً شجاعاً، وعندما ذهبوا إليه ليولّوه أمرهم، قال لهم: هل أدلّكم على من هو خير مني؟ من يطاعن في قُبُل، ويحمي في دبر؛ إنّه قطري بن الفجاءة، (كما أورد المبرد في الكامل).
ومع أنّ قطري كان رأساً للغلاة الأزارقة من الخوارج، إلا أنّ كتب التاريخ وصفته بصفات إيجابية، مثل؛ الشجاعة والزهد والتنسك، ولم تأبه إلى ما كان يؤمن به من أفكار متطرفة، ولم تنكر ما كان له من شيم، فقال عنه ابن كثير: “من الفرسان الشجعان المذكورين المشهورين”.
لم يشكّ لحظة أنه قد يكون على باطل أو أنّ الدماء التي سفكها ستلاحقه في الآخرة
3التمدّد والسيطرة
بعد موت يزيد بن معاوية، ضربت التصدعات الخلافة الأموية، واستقلّ الزبيريون بالحجاز، ثم العراق، بعد الانتصار على المختار بن عبيد الله الثقفي، وباتوا في مواجهة جيش قطري.
استعرت الحرب بين الزبيريين، والخوارج الأزارقة، لكنهم لم يحققوا نصراً عليهم، بل تعرضت جيوشهم لهزائم متلاحقة.
عند هزيمة جيش مصعب بن الزبير، أمام جيش عبد الملك بن مروان الأموي،
بدأت الحرب بين قطري وعبد الملك، لكنّه ظلّ ما يربو على الثلاثة عشر عاماً صامداً، وألحق الهزيمة بجيوش الأمويين.
تمدّدت ولاية ابن الفجاءة حتى سيطر على الأهواز، وأجزاء من خراسان، وبويع بالإمارة، ونودي أميراً للمؤمنين من قبل أتباعه.
4المهلب لا الحجاج
لم يكن الحجاج بن يوسف، والي ابن مروان، قادراً على إلحاق الهزيمة بقطري، لكن الوضع اختلف مع القائد الأموي المهلب بن أبي صفرة،
وإن فشل في البداية عدة مرات.
كان للمهلب قدرة على فهم عقل الخوارج وتحليل وجدانهم، وهو العالم الفقيه الحكيم، الذي فهم مبكراً أنّه في مواجهة خصم غير تقليدي، يؤمن بأفكاره بشدة، وعلى استعداد لأن يموت دونها، وهم بذلك يمثلون أشدّ الخطر على الأمة من غيرهم، كالروم المتربصين بحدود الدولة والرابضين على ثغورها.
آمن المهلب بأنّ الخوارج بأفكارهم، يمثلون خنجراً في ظهر الدولة، يمنع توسعها وتمددها، وعائقاً يحول دون استقرارها وأمنها، ولذا فإنّه نذر نفسه وبنيه لحربهم حتى القضاء عليهم قضاءً مبرماً،
لكن في الوقت ذاته، كان ينظر إليهم نظرة يغشاها الاحترام، وعدم التقليل من شأنهم، ولذلك انتصر في نهاية الطريق الطويل.
مع انتصاراته العديدة على بشر بن مروان، ومن قبله ابن الزبير، إلا أنّه كان يشعر بأنّ نهايته ستكون على يد المهلب “العنيد الماكر”، فيقول:
“ألم يأتها أني لعبت بخالد.. وجاوزت حدّ اللعب لولا المهلب.. وأنّا أخذنا ماله وسلاحه.. وسقنا له نيرانها تتهلب.. فلم يبقَ منه غير مهجة نفسه.. وقد كان منه الموت شبراً وأقرب.. ولكن منينا بالمهلب إنّه.. شجيّ قاتل في داخل الخلق منشب”.
قطري كان يحترم المهلب ويقدّره، بينما كان له رأي مختلف تجاه الحجاج بن يوسف، الذي أرسل له رسالة عنيفة تتهمه بالعصيان. ردّ قطري على الحجاج بقوة، منتقداً قسوته وغروره، وأكد شجاعته في مواجهة الأعداء. كان طموحه في بناء دولة لجماعته، فأصدر عملة تحمل اسمه ولقب “أمير المؤمنين”. ورغم ذلك، انهارت دولته سريعاً أمام قوة النظام الأموي، ولم يتبقَ من آثارها سوى تلك العملة.
بعد كرّ وفرّ في حروب طويلة، استطاع المهلب إزاحة قطري والذين معه من الأزارقة إلى أصفهان، وفي أرضها أقام قطري دولة، وجبى الأموال، فاجتمعت إليه جموع كبيرة فقوي أمره مرة أخرى، فتطلع إلى الاستيلاء على البصرة.
5التصدع من الداخل
لا يكسر الخوارج القوة العسكرية الخارجية، لكن تكسرهم الخلافات الطاحنة التي تدب داخل تنظيمهم، ربما على أهون الأسباب، وهو ما حدث مع “الأزارقة”.
دبّت الخلافات بينهم، وزاد في ذلك دهاء المهلب، الذي كان يدرك ثغرات الخوارج الفكرية، فانهزم جيش ابن الفجاءة بعدها هزيمة منكرة، بعد أن تفتتت قوته، وانفضّ كثير من أتباعه من حوله، بسبب مسألة فقهية.
بعد قتال استمر ما يقرب من 20 عاماً لقي ابن الفجاءة مصرعه بعد أن تفرق أنصاره من حوله، وقضوا على يد مجموعات من العشائر المتطوعة لقتاله، الطالبة للثأر منه.
أما عن نسب دولة قطر إلى قطري بن الفجاءة، فيُعتبر هذا القائد رمزًا للتمرد في النقاشات حول الخلاف بين السعودية وقطر، حيث وُلِد في البادية عام 30هـ، ويُعتقد أنه وُلِد في “المعدان” في الجنوب الشرقي من قطر.
يُشتق اسم “قطر” من اسمه، مما يعزز السردية التي تصوّر السعودية كامتداد للدولة الأموية، التي تعود أصولها إلى مكة وقبيلة قريش، في مقابل قطر التي تتحدى هذا النفوذ. يُضفي هذا الربط بُعدًا تاريخيًا على النزاع الحالي، مُعيدًا إحياء صراع قديم بين قوة مهيمنة ودولة متمردة.
إنّ ثقافة الموت تمكّنت من نفسية الرجل، كأنّه يحيا من أجل أن يموت ويميت، يستهين بالموت لنفسه، ويستهين به للآخرين أيضاً.
حكي عنه أنّه خرج في بعض حروبه، وهو على فرس أعجف وبيده خشب، فدعا إلى المبارزة فبرز إليه رجل، فحسر له قطري عن وجهه، فلمّا رآه الرجل تولّى عنه، فقال له قطري: إلى أين؟ فقال: لا يستحيي الإنسان أن يفرّ منك.
عندما اقترب من الموت، حدّث نفسه بهذه الأبيات:
“أقول لها وقد طارت شعاعاً … من الأبطال ويحك لن تراعي
فإنك لو سألت بقاء يوم.. على الأجل الذي لك لم تطاعي
فصبراً في مجال الموت صبرا.. فما نيل الخلود بمستطاع
ولا ثوب الحياة بثوب عزّ.. فيطوي عن أخي الخنع اليراع
سبيل الموت غاية كلّ حيّ.. وداعيه لأهل الأرض داعي
ومن لم يعتبط يهرم ويسأم.. وتسلمه المنون إلى انقطاع
وما للمرء خير في حياة.. إذا ما عدّ من سقط المتاع”.