20 غشت 1953: كنتُ في سِنّ الطفولة.. تلميذًا بِمدرسةِ “رأس جِيرّي” التي سَاهمَ والدِي في بنائها، قُبالةَ الكُوخِ الذي وُلِدتُ فيه أنا وإخوَتِي..
وأتذكّرُ الصّرخةَ الكُبرى، من أجلِ السّلطان محمد الخامس.. وفي المَساء، دَعاني والدي إلى مَجلسٍ للجِيران..
كلُّ الحاضِرين رِجال، وطفلٌ واحدٌ بينَهُم، هو أنا..
وأُطلِقَ الرّاديو: جِهازٌ صغير يُسمّونهُ “تْرانزِسْتُور Transistor”..
ومع هذه المجمُوعةِ من كبارِ قريتِنا، استَمَعتُ إلى “نِداءِ القاهِرة”، للزعِيم “عَلاّل الفاسِي”..
كنتُ صَغيرًا.. طِفلٌ يُركّزُ على حَدَثِ كبير..
كلُّ الحُضُور في حالةِ توتّرٍ شديد..
وفي طريقِ العَودة، سألتُ والِدي: مَن هو مُحمد الخامس؟
قال: إنهُ مَلِكُنا…
وَشرحَ لي ما قال الزعيمُ المغربي على أمواجِ إذاعة “صوتِ العَرب” منَ القاهرة..
وفي الغد، كانت كُلُّ قريَتِنا في حالة اهتِزاز.. غاضِبة.. شديدة التّوتُّر..
ولم يَذهب والدِي كالعادةِ إلى السُّوق..
ولا حديثَ للنّاس إلاّ عن الجريمةِ الفرنسية.. جريمةِ نَفيِ السّلطانِ وأُسرتِه إلى جزيرة “مَدَغَشقَر”..
اقتَرَفَتها فرنسا، ونصّبَت “بَن عَرفة” على عرشِ المَملَكة..
وتَحرّك الجَيشُ الفَرَنسِي، في كلّ مكان..
ودَعَتني أُمّي للدّخولِ إلى كُوخِنا.. وقالت: العَسكرُ – وبلا شكّ – سوف يأتي إلى هُنا.. وهل نسيتَ يا بُنَيّ ذلك العَسكريَّ الفَرنسي الذي هدّدكَ ببُندُقيّتهِ في وقتٍ سابق؟
أجبتُها: لم أنسَ يا أمّي.. وقد فتّشَنِي.. فتّشَ حتى ما بداخلِ “قشّابتِي”..
واستَكمَلنا الحديثَ داخِلَ كُوخِنا..
وسألتُ أمّي: هل “محمد الخامس” هو ملكُنا نحنُ فقط؟
وابتَسَمَت: واللهِ يا ابنِي لا أفهَمُ ما تقُول..
وقُلتُ لأمّي: هل يُوجدُ الناسُ فقط عندَناَ، هُنا وفي مَكناس؟ أم هناك مكانٌ آخَر؟ وأُناسٌ آخَرُون؟ هل الملكُ هُو لنا وحدَنا، هُنا في “رأس جِيرّي”؟
وابتسَمَت أُمّي: واللهِ لا أفهَمُك..
وجاءَ صديقي “أحمد ولد السّي ابراهيم”، ونَحنُ أيضا لا كلامَ لنا إلاّ عن بَطلِنا محمد الخامس..
وأخبرَني أنّنا سنذهبُ غدا إلى المَدرسة..
وفي الغَد، كُنّا بجِوارِ المَدرسة..
وشخصٌ مَجهُولٌ أحاطَ نفسَهُ بمجموعةٍ من التلاميذ، ويَحكِي لهُم أنّ الطائرة التي نقَلت السّلطان، كانت ستَسقُط من السّماء، ولكنّ السلطانَ وَضعَ ببَرَكتِه مِنديلَه على الخَزّانِ، ففاضَ الخَزّانُ بالبترُول، وتمّ إنقاذُ الطائرة..
وقال صديقِي: هذه مُعجزة!
وبدأ الناسُ يَتدَاولُون بُطولةَ السُّلطانِ المَنفِيّ، مع وليِّ عهدِه وأفرادِ أُسرتِه، إلى جزِيرة “مَدَغَشقَر”..
ووَصَلت إلينا، نحنُ الأطفال، أخبارُ الثّورةِ المَغربية ضِدّ الاستِعمار..
أحداثٌ كثيرةٌ وقَعَت في مكناس ورأس جِيرّي وغيرهِما..
وسوف تقَعُ عندَما تُستَأنَفُ الدّراسة..
السُّلطانُ في القَمَر
ما زلتُ صغِيرًا، ولكنّ الحَدثَ كبِير..
ذهبتُ إلى البَقّال “مُوحَا أوكَنزَة”، واشتَريتُ صُورةَ محمد الخامس، لكي أراهُ أنا والأسرةُ على سَطحِ القَمر..
كان في الصّورةِ لونٌ أحمَر..
وعندما كبُرتُ، عرفتُ أنّ الأحمرَ لا يَختفِي بمُجردِ رؤيتِه.. إنه يبقَى مُسجّلاً في الذّاكرةِ لبضعِ ثَوانٍ.. وهذه الثواني كافيةٌ لأن أرَى الصورةَ التي اشتريتُها.. ومُباشرةً بعد الرُّؤية، أرفعُ بصَرِي إلى القمَر في ليلةِ كمَالِه، فتَنتَقلُ الصّورةُ من ذِهنِي إلى القمَر، وتظهرُ لي صورةُ محمد الخامس، مُنعَكِسةً على سَطح القمر..
كنتُ من تلاميذِ “رأسِ جيرّي” الذين شاهدُوا صورةَ السّلطان، مُنعكِسةً مِنَ الذّهنِ على البَدرِ المُكتمِل..
وعرَفتُ عندما كبُرتُ أنّ الصّورةَ ليسَت حقيقيّة على القَمَر، بل هي أسطورَةٌ من إنتاج المُقاومةِ المَغربية، بتَعاوُنٍ مع دُهاةِ اللُّعب البَصرية..
ولكنّها خُدعةٌ بصَريّةٌ مُمتِعة، اقتنَع بها الناسُ لدرجة أنّ الفرنسيّين أنفُسَهُم تساءلوا إن كانت الصّورةُ حقيقةً أم إشاعة..
والجميعُ في قريَتِنا يَجِدُون في صُورةِ القَمر انعِكاسًا لمدَى التّشبّثِ الوطني بالسّلطانِ الذي يَحظَى بإجماعٍ شعبي، ويرى فيه الناسُ رمزًا فعّالاً للتّضحيةِ والفِداء، من أجلِ سلامةِ واستقلالِ المَغرب..
ودخلَت هذه الصورةُ السُّلطانيةُ التاريخَ الوَطنِي المُقاومِ للاستِعمار..
إنها فكرةٌ تبنّتها المُقاوَمةُ المَغربية، ونَفّذَتها، وحقّقت بها في كلّ البلادِ مزيدًا من الحماسِ الشعبيّ، في الكفاحِ مِنْ أجلِ الحُرّيةِ والاستِقلال..
وهذه الصّورة تعنِي أن المُقاومةَ المغربية لها خيالٌ بنّاء.. وقُدرة على سبقِ الأحداث..
كانت تُقاوِمُ أيضًا بأفكارٍ فعّالة..
وتُحسِنُ مُخاطبةَ النّفسيةَ الشعبية، والتّفاعُلَ مع التنوّعاتِ السكّانية، بكُلّ مُستَوياتِها، في كل ربوعِ البلد..
ومعها دَخلَ الفنُّ المغربي، بكُلّ تلاوينِه، في مَعركةِ المُقاومةِ الوَطنيّة..
وفي سياقِ كفاحِ الفنُون، أشهَرت “الحاجّة الحَمداويّة” بندِيرَها ضدّ سُلطانٍ مُزوّر، هو “بَن عرَفة”، الذي فشَلت سُلطةُ الحِماية في فرضِه على البلد، بديلاً للسُّلطانِ الشّرعِي.. وضدّ “بَن عرَفة”، أبدَعَت فنّانةُ المُقاوَمةِ أُغنيّتَها الوَطنيّة: “الشّيبَانِي”..
وبعد المَنفَى، عادَت الأُسرةُ المَلكيّة، وعلى رأسِها السّلطانُ الشّرعِي محمد الخامِس إلى المَغربِ عودةَ الأبطال..
“عَمِّي عبد الله”
كان “عَمِّي عبد الله” من رِجَالِ المُقاوَمة..
كان حارِسًا في ضَيعةِ “جانُو”..
الظروفُ كانت متوتّرة.. والمقاومة ضدّ الاستعمار قد بلغَت أوجَها.. فكَم من الضّيعاتِ أحرقُها الوَطنيّون.. وكم مُعَمّرًا هُوجِمَ في عُقرِ دارِهِ وتمّ الاستيلاءُ على سِلاحِه..
وفي تلك الأيّامِ هُوجِمَت ضيعةُ “جانُو”، وكانَت لعمّي يدٌ في العمليّة..
وأقسمَ “جانُو” أن يَنتَقِمَ من “عَمِّي عبد الله”..
في ذلك الوقت، كان عمّي يشتغلُ في ضيعة “خْوان”، بعدَ خُرُوجِه من ضَيعةِ “جانُو”..
وفي يومٍ صيفِيّ، خرَجنا من بابِ المَدرسة، فوَجَدنا عَمّي جُثّةً هامِدةً على حافة الطريق، وبجوارِها الدرّاجةُ التي يَركبُها عمّي إلى عمَلِه..
من قتَلَ “عَمِّي عبد الله”؟
يَحكِي شهودُ عيان أن القاتلَ هو صَهرُ “جانُو”، وقد داسَ عمّي بالشّاحنة، وأسقَطَهُ أرضًا، ثم عادَ بنفس الشاحِنة، فداسَهُ للمرّة الثانية، ولاذَ بالفِرار..
لقد كان مُديرُ مَدرَسَتِنا، الأستاذ الودغيري، قادمًا بسيارتٍه، فتعَقّبَ أثَرَ سائقِ الشاحنة، وأوقفَه على بُعد بضعِ كيلومترات..
مات عَمِّي، وترك أثرًا كبيرا في نفسِي..
كانت الأيامُ مُكهرَبةً مُضطرِبة.. وأبي كجِميعِ سُكّان “جِيرّي” لم يَشتَرِ كبشَ “عيد الأضحى”..
واشتَدّت المُقاومةُ المغربية..
وذاتَ يوم، كنّا نحنُ مَجموعةُ تلاميذ.. وفوجئتُ بوَحَدةٍ عسكريةٍ تُوجّهُ صَوبَنا فَوهاتِ بنادِقِها..
أمَرَنا العَساكرُ برفعِ أيدِينا إلى فوقِ رؤُوسِنا..
رفَعنا الأيدِي.. وبدأ عسكريٌّ فرنسيّ يُفتّشُنا واحدًا واحِدًا..
ثمّ انصرَفَ العساكر.. ووَلّت الوَحَدَةُ من حيثُ أتَت..
ما زلتُ أحبّ عمّي كثيرًا..
فقد عاش معَنا.. وأتذَكّرُ يوم زفافِه..
وترَك طفليْنِ هُما الآن في بلجيكا..
– يُتبَع…