بنفس الوفاء لاسلوبه الساخر و الجميل و بلغة ذكية و عميقة و بذكائه الثاقب، يستمر الإعلامي الكبير أحمد إفزارن، في سرد حكاياته المثيرة و ذكرياته العجيبة و الغريبة.. في هذه الحلقة الثالثة سيتحدث السي أحمد عن العنصرية بين مدرسة الفرنسيين و مدرسة المغاربة، كما سيروي لنا ما وقع له مع حمار أبيه الذي عضه في ركبته .. اقرأوا و استمتعوا
الحلقة 3
مَدرَسةُ المَغاربة
ستكُونُ ثاني مَدرسةٍ في “رأس جِيرّي”..
المَدرسةُ الأولى خاصةٌ بالمُعمّرِين.. لا يَدرُسُ بها إلاّ التّلاميذُ الفرنسيّون، وخاصةً بناتُ وأبناءُ المُعمّرين، والمغاربةِ المُقرّبين من السّلطات الفرنسية..
والمدرسةُ التي سوف تُبنَى، هذه خاصةٌ بالتلاميذ المغاربة..
وها هي السلطاتُ الفرنسية تمارسُ التّفرقةَ العُمصرية بين الفرنسيّين والمغاربة، في التعليمِ العمومي..
وفي “رأس جِيرّي مَدرسَتان: واحدة للفرنسيّين والآخرى للمغاربة”..
إنه التّميِيزُ بين مَدرسةِ المُعمِّر، ومَدرسةِ المُستَعمَر..
وسيَكونُ والدِي من بُناةِ مَدرسةِ المَغاربة..
والِدي سألَتهُ أُمّي عن الجديد، وهو مُنكبٌّ على صَبّ الشّاي، فأخبَرَها أنهُم بَعثُوا إليهِ “وَلد قدّور”، فأخبَرهُ أنّ عليهِ أن يَشتَغلَ بدايةً من الغد، في بِناءِ المَدرسةِ الجَديدة الخاصةِ بالمَغاربة في “رأس جِيرّي”: “كلُّ الرّجالِ سَوفَ يَتَناوبُون على العَملِ في النّهار، وعلى الحِراسةِ ليلاً، إلى أن يَكتَمِلَ بناءُ المَدرَسة”..
أدخلَنِي أبي إلى هذه المَدرسةِ الجديدة..
مَدرَسةٌ حديثةُ البِناء.. تقعُ بجِوَارِ كُوخِنا.. ولا تبعُد عنّا إلاّ ببِضعَةِ أمتار..
“ولد السّي إبراهيم” كان أقربَ التّلاميذ منّي.. نفسُ العُمر.. نفسُ الطّباع.. مُجتهِد.. أنِيق.. طيّب..
كان التّعليمُ إجباريًّا.. وتم فرضُ التّعلُّم على كلّ من لم يتعلّم.. وكان في القسم أطفالُ كلّ الأسَر: وأغلبُها مِن مُهاجِري مُختلف مَناطقِ الجفافِ والأوبئةِ والمَجاعة..
تنوُّعاتٌ بَشريةٌ تجَمَّعَت هُنا..
ولا أنسَى اليوم الأولَ في المَدرسة.. كانت تُدرّسُنا مُعلّمةٌ فرنسية قدِمت من مكناس على درّاجة نارّية..
وكانت المَدرسةُ تُقدّمُ لتلاميذِها وجبةَ فطُور..
وذات يوم، انتَهت حصةُ الدّروس، وخرَجنا..
وعندما وصلتُ للمنزل، سألتني أمي: “أين أخُوك حَمّادِي؟”..
أَخذَتني من يَدِي، و عادت بي إلى المدرسة.. وهناك، كان أخي مُحتجَزًا.. المُعلمةُ قد عاقَبَته.. ونَسِيَتهُ هُناك.. وأغلقَت الباب..
والعقُوبةُ فيها احتِجاز.. وفيها الضربُ بالمِسطرة على أصابع اليديْن.. وعلى مُؤخرةِ التلميذ الكسُول..
وعقوبةُ المعلم كانت الضربَ بالعصا على اليدين..
بينما عقوبة الفقيه هي الضربُ بعصَا الزيتُون على اليديْن والقدميْن..
وكلُّها تعنيفٌ لأطفالِ ذلك الوَقت..
ولم يطُل مُقام المُعلّمة الفرنسية..
جاء مُعلمٌ مَغربيّ هو الأستاذ “الهادِي المنِيعِي” شقيقُ الكاتبِ المغربي الكبير “د. حسَن المنِيعي”..
ومِنَ “السّي الهادِي” تَعلَّمنا..
هو أستاذ من الطراز الرفيع..
كان يُعلمنا العربية، والأخلاق، والتربية الوطنية، ويقُوم بتحفِيظنا الأناشيدَ الوطنية..
وبعد مُدة قصيرة، التحق به معلمٌ آخر هو “السي علاّل” الذي صار يُعلمُنا الفرنسيةَ والحِسابَ وموادَّ أخرى…
كان للمُعلّمِين جناحٌ للسّكنِ في المَدرسة..
أستاذان نعتزُّ بهما..
ولا ننسَاهُما..
أُستَاذَان درّسَانا لغاية اجتياز الشهادة الابتدائية..
وأحيانًا يَظهَران بباب مَسكنِهما، فيُشيرَانِ لي بإناءِ ماء..
وآخذُ الإناءَ فأملأُه بالماء من العَين..
وهكذا تكُون لهما الكفايةُ من الماء الشّروب..
وكان والدِي ووالدتي سَعيديْن بخدمتي للأستاذيْن..
وعندما يحتاجان لإصلاحاتٍ داخل القسم، يَعرفان أن أبي يَمتَهنُ “سبعَ صنائع”.. فيه الحدّادُ والبنّاءُ والنّجارُ ويَقتلعُ الضُّرُوس، وله مِهنٌ أخرى هي مِن احتياجاتِ القرية..
وفي رَمضان، يُواظِبُ على الآذان، خاصّةً في الفَجر والغرُوب..
ولا تفُوتُه مُناسبةٌ دينيّة، إلاّ ويَحضُرُها..
وله علاقاتٌ طيّبةٌ مع الجميع..
وهو متديّنٌ إلى أقصَى الحُدود..
ويحكِي لي قصصَ الأنبيّاء.. كيف كانُوا يعيشُون.. ويتَواصلُون.. ويَفعلون الخَير.. ويَخدُمون الناس.. ويحترمُون الجميع..
وكوخُنا قلّما يخلُو من الضّيوف..
وقد عُرف والدِي بإعدادِ الشّاي المُنَعْنَع..
فتحتُ عينيَّ على هذه البيئة الاجتماعية..
وأثناء الدراسة الابتدائية، وقعت أحداثٌ وأحداث..
كان أبي مُصرّا على أن أكون معه في كل مناسبة جماعية.. ويعتزّ بي أمام أصدقائه..
وكانت لي ثِقةٌ في كل ما يقول أبي..
ثقةٌ بلا حدود..
طيّبٌ صادقٌ أمِين..
وكنتُ أُنفّذ ما يَنصحُني به: في الفجر أستيقظُ للصّلاة، ثم أذهبَ للمسجد، ثم إلى المَدرسة..
وفي المساء، أقرأ الحزب.. وهو يتتبَّعُني..
وأراجِعُ الدروس.. أمام عينيْه..
نموذجُ للأبِ المُربّي.. النّموذجي.. القُدوة..
ومع الأيام، تحوّلَ “رأس جيري” إلى: “سوق الثلاثاء”..
وكان لأبي فيه “قيطُون” للحِدادة.. ويَقصده الناسُ لإصلاح أدوات المنزل، من “برّاد” و”غَلاّي” وغيرهِما..
وهو مَعروفٌ جدا..
وفي السوق، يأتي من يَعقدون معه مواعيدَ في قرية كذا، أو منزل كذا، فيجدُون فيه الحدّادَ والبنّاءَ والفلاّح وغيرَ هذه المِهن الأساسية للبادية..
وفي برنامجِه الأسبوعي أربعةُ أسواق منها: “ثلاثاء رأس جيرّي”، “سبت جَحجُوح”، “أحَد آيت ميمُون”،
وهكذا كانت حياتُنا اليومية…
وهذا البرنامجُ يجعل أبِي على اتصال بكُلّ سُكان القُرَى المُجاوِرة..
ويَضمَنُ مدخُولا مُستقرّا لحياتِنا اليومية..
كما يتمكّن من مُساعدة من يَحتاجون..
ومِن إدخالِنا أنا وإخوتي الذكورُ الثلاثة إلى المدرسة..
أختي الكبيرة تمكّنت، بعدَ زواجها وإنجاب أطفالها وبناتها، من تعلُّم القراءة والكتابة..
وقالت لي أمي: إن في حياتنا ثلاثَ بنات وطفل، كلهم فارقوا الحياة قبلَك، بسبب أمراض هي مُضاعفات “عام الجوع”..
وبرنامجُ والدي مُتنوّع كلّ أسبُوع..
كلّ يوم شُغلٌ في مَكان..
ثم في الأسواق..
هو معروفٌ في كل القبائل المُجاوِرة..
ولا أنسَى مساءَ يومٍ شتوِي..
عَضّةُ الحِمار!
كان أبي في إحدى الأسواق المُحاذيةِ لقَريتِنا “رأس جِيرّي”.. وفي الطريقِ اختلفت مِشيةُ أبي عن مِشيةِ
حِماره، فوصلَ أبي قَبلَ الحِمار..
غضِبَ أبي.. أيُعقَلُ ألاّ يكُونَ حِماري قد وصَل؟ لقد كان هو السابق.. وعلى طُول الطريق كان هو أمامي، وأنا أتبَعُه.. فماذا حدَث؟
وما زالَ أبي يتساءلُ عمّا حصَل، حتى وصلَ الحِمار..
وجدَ أبي في استقبالهِ ببابِ كُوخِنا.. وشاركَتهُ أمّي لمُساعدتِه في إدخالِ ما أتَى به من السّوق..
وبَغتَةً خرجتُ إلى الحمار، وصرتُ أُؤنّبُه بطريقتي على تأخُّرهِ في الطريق: “أيُّها الحِمار، كيفَ تَتأخّرُ عن أبي؟”..
سمِعَني أبي، وبَدأ يَضحَك..
وأنا لم أتوقّف عن زَجرِ حمارِ أبي: بلغَ بيّ التوتّرُ درجةَ الصّراخِ في وَجهِ الحِمار..
وأبِي لا يكُفّ عن الضّكك: “يا أحمَد! سامِحِ الحِمار!”..
ولا أفهمُ كيف أنّ هذا الحِمارَ قد فَهِم..
لقد ردّ عليّ بتوتُرِ مُماثِل..
واتضحَ أنّني أنا والحمارُ على مُستَوّى واحدٍ من التّصعِيد..
غضِبَ الحمارُ منّى، وانقضّ على رُكبتِي اليُمنَى..
لقد عضّنِي عضًّا شديدًا.. مُوجِعًا..
وصارت عَضّةُ الحِمار نُكتَةً في كُوخِنا!
– يا حسرةَ على طُفولةِ “رأس جيرّي”!
هناك أمضيتُ أجملَ أيام حياتي..
جَمِيلةٌ بعُمقِها الإنساني..
وهذا “الفَضاءُ القَرَوِي” قد أصبحَ اليوم تَجمُّعًا سكنيًّا كبيرا..
ولكن، عندما زرتُ أبناءَ خالي هناك، صُدمتُ كثيرا: هذا ليس “رأس جيري” الذي عشتُ فيه قبلَ 70 عامًا..
تكدَّسَت فيه مَظاهرُ البؤس والفقر والبطالة واللاتعليم..
في طفولتي كان فضاءًا للتعايُش والتواصل، مُنتعشًا بالاخضرار الزاهر في كل اتجاه..
والضّيعاتُ الفرنسيةُ تَنتشرُ فيها وحولَها شُجيراتُ العِنب، وأنواعٌ من الحبوب والخُضر والفواكه.. وفي كل اتجاه ترى الأغنامَ والأكباشَ والبقر..
الثروةُ كانت حاضرة..
والأطفالُ مُواظبون على الدراسة..
ومن مكناس يعود أبناءُ القرية الجميلة، ليحكُوا عن الدراسة الثانوية..
ومنهم من أصبح يَدرس في الجامعة بالرباط..
ونحن أولُ فوجٍ في المدرسة العصرية، حصل على الشهادة الابتدائية..
أما أنا وأخي حمّادي، ففي عطلة الصيف نشتغل في ضيعاتِ قطفِ العِنَب..
ونوفّرُ دراهم لشراءِ احتياجاتِنا الدراسية..
وكان والدي يُشجعُنا على العمل..
– العملُ عبادة!
كان يُكرّرُ هذا على مَسامعِنا..
ويقول: “النبيّ نفسُه كان يَشتغل.. لقد كان راعِيّا للغَنم.. ثم تاجرًا”..
وتشبّعنا بهذه الصّورة التي كان يُلقّنُها لنا والدِي..
ويدعُونا إلى عدمِ تركِ المَسجد..
وبعد كلّ فَجر، يُوقِظُني الوالِد، فأذهبُ إلى المَسجد لحِفظِ القرآن..
ثم أذهبُ إلى المَدرسة!
– يُتبَع…