تنطلق اليوم حلقات السيرة الذاتية للإعلامي الكبير الأستاذ أحمد إفزارن تحت عنوان ” مهاجر إلى الصحافة ” . السيرة الذاتية التي انجزها موقع ” لوبوكلاج ” و استغرقت شهور عدة، ستحاول أن تقربنا من محطات تاريخية و إعلامية و سياسية عاشها الأستاذ إفزارن أو تلك التي ساهم، من قريب أو بعيد، في تشكيل أهم ملامحها.
الحلقة الأولى
وُلِدتُ في مَدشَر “رَأس جِيرّي”، بضَواحِي مَدِينةِ مَكناس، عام 1948م..
هو العامُ الذي توَقفَتْ فيهِ المَجاعةُ الكُبرَى في المَغرب
والِدَايَ قدِمَا من الرّيف، بمنطقةِ الشّمال، مع مُهاجِرِينَ مِن قبِيلةِ “بنِي تُوزِين”، برُفقةِ جَدّي “مُوح بوجمعة” وجدّتي “فاظمة”، وهي والِدةُ أُمّي “فاظمة نْسَلاّم العَلاّوِي” وأخَواتِها وإخوانِها مِن “مَدشَر إجعُونَن” في “قاسِيطَا”..
جدّي من ابي هَجرَ مَسكنَه وأراضيهِ في “ثَاورِيرت” و”ثُلاثاء أزْلاَف” ودُوّار “إفزارَن” ومَناطِقَ أُخرَى…
وهجَرَت عائلتِي، مِن جهةِ الأبِ والأُمّ قبِيلةَ “بنِي تُوزِين”، تاركةً خَلفَها أراضِيها الفلاحية، ومَرّتْ مَشيًا على الأقدام، على مُفتَرَقِ الطّرُق “قاسِيطَا”، حيثُ لا زالت أرضُ والدتِي، واتّجهَت صوبَ “تازَة” ثم “فاس” ثم “مَكناس”..
واستَقرّت العائلةُ في قريةِ “رأس جيرّي”، بضاحيةِ مَكناس..
وهناك سوفَ نُولَد: أنا أحمد، وأُختِي ميمُونة، وإخوَاني حمّادي وامحَمد وبُوجَمعة ومُحمد..
وقَبلَ ميلادي ماتت ثلاثٌ من أخَواتِي البَنات، ثمّ أَصغرُنا أخي: عَلِيّ..
والوَفيَات كانت كلُّها بسبَبِ الأوبئةِ والمَجاعة التي استَفحلَت في كُلّ رُبُوعِ المُغرب..
الهِجرةُ من الرّيف لم تكُن طبيعيّة..
كانت بسبَبِ مَجاعةٍ كُبرَى..
فما بين 1940 و 1945م، اكتَسحَت مَجاعةٌ لم يَسبِق لها مثِيلٌ في تاريخِنا المُعاصِر، مجموعَ التّراب المَغربي، نتيجةَ جَفافٍ قاتِل..
وكان المغربُ آنذاك تحتَ حِمايةِ إسبانيا وفرنسا..
وهذا يَعني تقاسُمَ أغذيةِ البَلد، بكِيفيّةٍ غيرِ مُتوازِنة، مع دَولتيْن استِعماريّتَيْن: فرنسا وإسبانيا..
وثَرَواتُ البلد، وفيها احتياطاتُ الحبُوبِ والخُضر والموادّ الغَذائية، وأساسياتُ الحياةِ اليومية، يَذهبُ جُلُّها إلى القُوّتيْن المُحتَلّتيْن: إسبانيا في الشمال، وفرنسا في بقيةِ التّرابِ الوَطنِي..
إسبانيا كانت تَحرِقُ الغابات في الشمال، لتَوفيرِ التّدفئةِ لجُنُودِها المُتمَركزةِ في الرّيف وبقيةِ المِنطقةِ الشمالية، وصُولاً إلى الجنُوب، وتحديدًا: الصّحراءِ والجُزُرِ البَحريةِ المغربية..
وآنذَاك، كان الريفُ يُعاني من تبِعاتِ “حربِ أنوَال”، بقيادةِ زعيمِ حربِ الرّيف، “محمد بن عبد الكريم الخطّابي”، ضدّ الجيشِ الإسباني..
واستَعانَ الجنرال فرانكو، للتّغلّب في حربِه الأهليّة الإسبانية، بقُوّةٍ من شَباب الرّيف، يرتَدُون لباسًا للجيش الإسباني، بطربُوشّ مَغربي..
ونفسُ الطّريقة، استَخدَمَتها فرنسا في المِنطَقةِ المَغربيةِ الوُسطَى والجنُوبيّة التي كانت تَحتَلُّها بمُوجِب “اتفاقيةِ الحِماية”..
الدّولَتان الكبِيرَتان، إسبانيا وفرنسا، استَخدمَتا نفسَ الطريقةِ الاستِعمارية المُتمثّلة في الهَيمَنة على ثَرواتِ البلد، بما فيها الغاباتُ والأراضِي الفِلاحيةُ الجماعيةُ والخُصُوصيّة، والاستيلاءُ على مخزُون الزراعةِ لفائدة جَيشيْهِما، وجاليةِ كلّ منهُما، وتسريبِ كِمّياتٍ من مرُدوديّة البلادِ إلى خارجِ الحدُود، لضمانِ التّوازُنِ الغَذائي لفرنسا وإسبانيا..
وهذا عانَت مِنهُ كلُّ جهاتِ المملكة، نتيجةَ الجَفافِ الرّهيب، وما وَاكبَهُ من مَجاعةٍ كُبرَى مُتوَاصِلة..
وإلى هذا، كانت إسبانيا قد استَخدَمت في “حِربِ الرّيف” أسلحةً كِيماويّة، فأثّرَت تأثيرًا سَلبيّا على الأرضِ والسُّكان، لدرجةِ أن السّرَطانَ ما زالت أكثرُ إصاباتهِ مُنتشرةً في الرّيف، مُقارَنةً معَ نِسبةِ ضحاياهُ على الصّعيدِ الوَطني..
وإلى هذا، كانت الدولةُ الفرنسية تخُوضُ “الحربَ العالميّةَ الثانية”، ضدّ النّازيّة، وأَقحَمت فيها قُواتٍ مَغربيةً للدفاعِ عن التُّراب الفرنسي وعَن دُولِ ما يُعرَفُ حاليًّا بالاتّحادِ الأوربي..
وهذه صورةٌ عامّةٌ فيها دُولٌ كانت تَجعَلُ مِن طنجةَ مِنطقةً دَولية، وفيها إسبانيا وفرنسا، ومعهُما سيطرةُ مَجموعةٍ من الدّول الأوربية.. وتحتَ هذا الغِطاءِ الاستِعماري، تمّت إدارةُ “طنجة الدّولية”، بمُوجِب نِظامٍ دَولي..
وهذه الأعوامُ الجَفافية، عانَى فيها المَغاربةُ من القَحطِ والجَراد والطاعُونِ وأوبئةٍ أخرى…
وتبقَى مجاعةُ 1945 هي الأخطرُ على الإطلاقِ في تاريخِ المغرب..
وعانَى المغاربةُ خلالَها استنزافًا خطيرًا للموادّ الغَذائيةِ الوَطنية.. فتفشّت في البلد أمراضٌ وأوبئة، وحَصَلت كوارثُ إنسانيةٌ لم يَسبِق لها مَثِيل..
وفي نفسِ عام المَجاعةِ الكُبرى، عام 1945، تمّ إنهاءُ الحربِ العالميّة الثانيّة، وتأسيسُ هيئةِ الأُمَم، ومُنظمةِ الصحةِ العالمية..
هذه هي الحالةُ العامةُ المُحيطةُ بالمِنطقةِ خلالَ تلكَ الفترةِ المُتَشنّجَة، مَحليّا ودوليّا..