في هذه المحطة من محطات السيرة الذاتية للإعلامي أحمد إفزارن، يحكي لنا عن المرض و التلقيح و الهجرة و أشياء أخرى. لنقرأ:
التّلقِيح
ذاتَ صباح، أَخذُونا نحنُ الأطفالُ إلى سُوق “سَبت جَحجُوح”، ولقّحُونا بحُقنَةٍ في ذِراعِِ كلّ واحدٍ منّا، ثم أرجَعُونا إلى “رأس جِيرّي”..
ولم نَعرِف معنَى التّلقِيح، سِوى أنه ضِدّ مَرضٍ كانَ مُنتَشِرًا في أوساطِ أطفالِ القَرية..
وأنا نفسِي قد أُصِبتُ بمَرَض..
وفيما بعد، سيَزدادُ في كوخِنا مَولودٌ جديد: “عَلِي”..
أخُونا “عَلِي” أُصِيبَ هو أيضا بمرَضٍ، ثم فارقَ الحياة..
وأحدَثَت وفاتُه ألَمًا شديدًا في كُوخِنا..
وكان رأسِي بدُونِ شَعْر.. كُنتُ طِفلاً “أقرَعَ” من حِدّةِ المرَضِ المَجهُول..
وكان أبي يُعالِجُ رأسٍي بزَيتٍ أسوَد.. ويقُومُ والدٍي هو نفسُهُ بتَحلِيقِ شعَرِ رأسِي بين الحينِ والآخر..
وبعدَ مُدّةٍ استعادَ رأسِي عافِيَّتَه..
وأصبحَ شَعرُ رأسِي لامِعًا..
ثم نَنزِلُ نحنُ الأطفالُ إلى الوَاد الذي يَفصلُ بين سُكانِ القرية: سكانُ يمِينِ الوَاد تابِعُون لمدينة “الخميسات”، ونحنُ سُكانُ يَسارِ الوَادِ تابِعُون لمدينةِ مكناس..
وكان هذا الوَادُ هو الفاصِلُ الحُدودِي بين نُفُوذ مكناس ونُفُوذِ الخميسات، في ذلك الوقت..
وكانت قريتُنا خَضراءَ جميلة..
مَعروفةٌ بقريةُ مُقاوَمةِ الاحتِلال..
تَتَوسّطُ ضَيعاتِ المُعمِّرِين الفَرنسيّين..
وفيها يَتقَرّرُ مَسارُ حياتِي، أنا وإِخوتِي..
وفيما بعد، أنشأُوا فيها “سُوق الثّلاثاء”، وهو يقعُ بين سُوق “سَبت جَحْجُوح”، و”الأحَد آيَت مِيمُون”، وأسواقٍ أخرَى… ومِنها يَقتَنِي سُكّانُ المَناطقِ المُجاورةِ احتيّاجاتِهم، من أغذِيّةٍ وغيرِها…
وفيها تجِدُ وافِدِين مِن مُختلِف الأرجَاء..
ويَلتَقِي مُهاجِرُون مِنَ الرّيف، جْبَالة، سُوس، الصّحراء، الأطلَس، ومَناطِقَ أُخرَى…
ويَجمعُ كلّ هؤلاء تَواصُلٌ بالدّارجةِ المَغربيّة..
وفي هذه القريةِ المُخْضَرّةِ الجمِيلة، يَتلقّى الجمِيعُ تِرحَابًا مِن سُكّانِ القَريةِ الأصليّين.. والناسُ، وحتّى الأطفالُ يَشتَغلُون في الضّيعاتِ الفَرنسيّة، ويُمارسُون مِهَنًا مُتكاملةً كالتّجارةِ والصّناعةِ والحِدادةِ والنّجارةِ والفلاحةِ وغيرِها…
ولا أحدَ مِنهُم يَتصوّر أنّ القدَر يُبقِي لهُم مُفاجَأة، وهي أنّ أجيالاً قادِمةً ستَخرُج من صُلبِهم لكي تكُونَ مُهاجِرةً إلى الخارج…
وقلّما تجِدُ بلدًا في العالم لا يَقطُن فيه واحدٌ أو أكثَر من مُهاجِري هذه الفُسَيفِساءِ البَشريةِ المَغربية..
بناتُ وأبناءُ “رَأس جِيرّي” في كل مَكان..
مَغاربةٌ مُتألّقون.. مِنهُم عُمّالٌ ماهِرُون، وأطبّاء، ومُهندِسُون، وأساتِذة، وخُبراءُ في الرّياضيّات، والفيزياء والكيمياء، والاقتِصاد.. وكفاءاتٌ عِلميّةٌ أخرى رفِيعة.. وكُتّاب، وإعلاميّون، وسياسيّون، ومُبدِعُون في مُختلفِ الفنُون والاختِراعاتِ والابتِكارات…
وإلى هؤلاء، مَسؤولُون كبارٌ في سَلاليمِ دُولِ الإقامة..
مَغارِبةٌ بارِزُونَ قد خرَجُوا مِن رَحِمِ المُعانَاة..
ومغاربةٌ أصبَحُوا يُعَلّمُون العالَمَ حتى النّانُو وعُلومَ الفضاء..
إنه العالَمُ ما ظَنَنّا أنّهَ يومًا ما سيَختَلِط.. وأنّ لِبَنَاتِنا وأبنائِنا مكانًا في مسؤولياتِ تحريكِ السياساتِ العالميّة..
حَسِبنا أن العالمَ مُنحصِرٌ في مكانٍ واحد هو “رأس جيرّي”، أو الريفُ أو الأطلسُ أو الصحراءُ أو غيرُها من “تُراثنا” الجغرّافِي المَغربي..
وأَدرَكنا أن الهِجرةَ ليسَت ظاهرةً محدُودة..
الهجرةُ من حُقوقِ الإنسان..
وعبرَ التاريخ، لا تَستَثنِي بُسطاءَ العالم، بل شمَلَت حتى الأنبيّاء والحُكماءَ والمُفكرين…
إنها مُحرّكٌ لاختِلاط الشعوب والأمم، وجعلِ الناسِ اسرةً واحدة، في عالمٍ ظاهرُه مُتنوّع، وباطنُه عالَمٌ واحد..
ورِحلةُ أُسرَتي كانت، هي الأخرى، وما زالت رحلةً من أجلِ الحياة!