حين قرّر الرئيسُ الفرنسي إيمانويل ماكرون في التّاسع من شهر حزيران/يونيو الماضي مفاجأة الجميع بحلّ الجمعية الوطنية والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة رداً على تحقيق حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف لنتيجة تاريخية في انتخابات البرلمان الأوروبي، قال إنه يُريد «توضيح الوضع» من خلال «إعطاء الكلمة للشعب».
بعد ذلك بشهر، قال الشعب الفرنسي يوم الـسّابع من تموز/يوليو الجاري فعلاً كلمته عبر صناديق الاقتراع، والتي، بدلا من أن تأتي بـ«التوضيح» الذي أراده ساكن قصر الإليزيه، أغرقت المشهد السياسي في فوضى سياسية غير مسبوقة وحولّت مركز السلطة إلى الجمعية الوطنية على بعد عامين ونصف العام من انتهاء الفترة الرئاسية الثانية والأخيرة لإيمانويل ماكرون.
ثلاث كتل
أفرزت نتائج هذه الانتخابات التشريعية المبكّرة ثلاث كتل، هي اليسار والوسط واليمين المتطرف، من دون أن يتمكن أيّ من هذه الكتل تحقيق الأغلبية المطلقة في الجمعية الوطنية (289 مقعداً برلمانياً من أصل 577) ويعني ذلك أن أيا من الكتل الثلاث لن تتمكن من تشكيل حكومة أغلبية وستحتاج إلى دعم من الآخرين لتمرير التشريع. حصل تحالف اليسار، الذي تشكل في إطار هذه الانتخابات التشريعية تحت اسم «الجبهة الشعبية الجديدة» على 184 مقعداً برلمانيا، يضاف إليها المقاعد البرلمانية الـ 10 التي تحصل عليها مرشحون يساريون مستقلون ـ أي أنه في المجمل، بات اليسار يتمتع بـ194 مقعداً برلمانيا في الجمعية الوطنية الجديدة، وهو رقم يبعده عن الأغلبية المطلقة 289 بفارق 95 مقعداً برلمانيا.
أما معسكر الرئيس إيمانويل ماكرون فقد (حزب النهضة – حزب مودِيمْ- حزب آفاق – وآخرون) حلّ ثانيا بحصوله على 166 مقعداً برلمانيا. في حين، حصل حزبُ «التجمع الوطني» اليميني المتطرف وحلفاؤه على 143 مقعداً، مضاعفاً بذلك عدد مقاعده البرلمانية. لكن هذه النتيجة التي خالفت كل التوقعات شكّلت هزيمة قاسية لحزب مارين لوبان وجوردان بارديلا، الذي كانت جميع استطلاعات الرأي ترجّح فوزه.
ماكرون يرفض استقالة أتال
وبينما سارع اليسار إلى مطالبة إيمانويل ماكرون بدعوة شخصية من «الجبهة الشعبية الجديدة» لتشكيل الحكومة، رفضّ الرئيس الفرنسي استقالة رئيس وزرائه غابريال أتال، مطالباً إياه بالبقاء في منصبه وتصريف الأعمال الجارية، من أجل «الحفاظ على استقرار البلاد» التي تستعد لاستضافة باريس دورة الألعاب الأولمبية، حسب ما جاء في بيان لقصر الإليزيه. غير أن مجال تحرك أتال أضحى محدوداً في ظل تمتع المعسكر الرئاسي بـ 166مقعداً فقط من أصل 577 داخل جمعية وطنية معادية إلى حد كبير للرئيس الفرنسي وحكومته.
وهو وضع سياسي غير مسبوق في هذا البلد الذي اعتاد على الاستقرار السياسي بفضل دستور عام 1958. أمام هذا القرار واصل اليسار ضغوطه على الرئيس الفرنسي، مشددا على أحقيته في إدارة الحكومة، ومتهمًا إيمانويل ماكرون بالتلاعب بالوقت وعدم الاعتراف بالنصر النسبي الذي حققته «الجبهة الشعبية الجديدة» في الانتخابات التشريعية. في هذا الصدد، اتهم منسق حزب «فرنسا الأبية» مانويل بومبار الرئيس ماكرون بـ«تكثيف المناورات بهدف خطف نتائج الاستحقاق التشريعي».
وتَعتزم «الجبهة الشعبية الجديدة» بصورة خاصة إلغاء تدابير أساسية اتخذها معسكر الرئيس الفرنسي، في مقدمتها إصلاح نظام التقاعد المثير للجدل، الذي تم تمريره بالقوة من دون المرور عبر تصويت البرلمانيين، والذي يعد الإجراء الأبرز في الفترة الرئاسية الثانية لإيمانويل ماكرون على الرغم من الرفض الشعبي الواسع له. كما يريد اليسار الزيادة للحد الأدنى للأجور عبر مرسوم فوري، وإصلاح نظام مُساعدات البطالة.
تسمية رئيس وزراء محتمل
غير أن تحالف اليسار، المليء بالتناقضات، ما يزالُ (حتى كتابة هذا النص) غير قادر على الاتفاق على اسم مرشح مشترك لماتينيون (رئاسة الحكومة). وثمة تباين بين أحزاب هذا التحالف الذي تم تأسيسه على عجالة بعد حل الجمعية الوطنية: حزب «فرنسا الأبية» والحزب الاشتراكي وحزب «الخضر- أنصار البيئة- والحزب الشيوعي».
وتجري هذه الأحزاب محادثات من أجل تقديم مرشح مشترك لمنصب رئيس الوزراء، والذي أكدت مصادر داخل الائتلاف اليساري أنه لن يتم رسميا الإعلان عن أي اسم قبل يوم غد الاثنين على الأقل. وأكد فابيان روسيل رئيس الحزب الشيوعي، أن الأحزاب اليسارية التي تتفاوض منذ أيام تواجه «جموداً» في ظل عدم قدرة أبرز حزب «فرنسا الأبية» والحزب الاشتراكي على التوصل إلى اتفاق، حيث يَقترح كلٌ من هذين الحزبين، الأبرز في الائتلاف من حيث عدد المقاعد البرلمانية المُتحصّل عليها، مرشحا من معسكره.
ويتهم بعض الاشتراكيين «فرنسا الأبية» بتعمد إطالة أمد المفاوضات لدفعهم إلى تفكيك اتحاد اليسار.
للخروج بحل وسط في ظل «الحاجة الملحة» لتسمية مرشح لمنصب رئيس الوزراء من أجل الضغط أكثر على الرئيس إيمانويل ماكرون، طرح الحزب الشيوعي اسم السياسية المخضرمة هوغيت بيلو، المنتمية سابقاً إلى الحزب الشيوعي، والنائبة البرلمانية السابقة من عام 1997 إلى عام 2020 والرئيسة الحالية للمجلس الإقليمي لمنطقة لارينيون منذ 2021. ويبدو هذا الخيار مناسبا بالنسبة للكثيرين، كون هذا الأخيرة امرأة من الخارج، لا ترتبط هوغيت بيلو اليوم بأي حزب سياسي، ولديها مسيرة مهنية طويلة كمسؤولة منتخبة محلية.
وبالتالي، فإن موقف الحياد هذا يمكن أن يروق لمختلف قادة اليسار، بما فيهم داخل القيادات في حزبي «فرنسا الأبية» و «الخضر» حيث أعطى الحزبان، وفق مصادر، موافقة أولوية على فكرة وصول هوغيت بيلو إلى ماتينيون (رئاسة الحكومة) بينما رفضها الاشتراكيون الفكرة، حتى الآن.
حجب الثقة عن أي حكومة يسارية
وإذا كان اليسار يعمل بشكل مكثف على تعيين رئيس وزراء وحكومة، فقد أعلن العديد من الشخصيات البارزة في اليمين، بمن فيهم رئيس مجلس الشيوخ جيرار، أنهم سيطرحون مذكرات حجب الثقة عن كل الحكومات اليسارية المحتلمة أو تلك التي تضم وزراء من حزب «فرنسا الأبية» أكبر قوة في ائتلاف اليسار من حيث عدد المقاعد البرلمانية،
وأيضا حزب «الخضر» المدافع عن البيئة. وهو موقف تبنته أيضا مارين لوبان وحزبها «التجمع الوطني» اليميني المتطرف. كما تبناه أيضا الجناح اليميني في حزب الرئيس إيمانويل ماكرون «النهضة» بمن فيهم وزير الداخلية جيرار دارمانان، وعلى هذا المنوال، تحدث وزير الداخلية جيرار دارمانان، قائلا إنه «من الممكن أن يكون هناك رئيس وزراء يميني».
يشتد النقاش داخل المعسكر الرئاسي، الذي يحاول إيجاد بديل عن اليسار لتشكيل الحكومة، من خلال مغازلة اليمين الديغولي ممثلا في حزب «الجمهوريون» الذي حصد 65 مقعداً برلمانيا، ولكن أيضا الحزب الاشتراكي وحزب «الخضر» وبالتالي إحداث شرخ داخل تحالف «الجبهة الشعبية الجديدة» اليساري.
وطالب نواب وقيادات في معسكر الرئيس ماكرون بمحاولة «التوصل إلى تحالف ذي أغلبية نسبية» بدون حزبي «فرنسا الأبية» اليساري الراديكالي و«التجمع الوطني» اليمني المتطرف.
في هذا الصدد، دعا رئيس الوزراء السابق والزعيم الحالي لحزب «آفاق» إلى توقيع «اتفاق فني» مع حزب «الجمهوريين» اليميني بهدف «تطوير وإدارة شؤون البلاد لمدة عام على الأقل». وهو خيار رأى آخرون في صفوف المعسكر الرئاسي أن الوصول إليه قد «يستغرق أسابيع». ويبدو، في المقابل، أن بعض قيادات اليمين بدأت بالانفتاح التدريجي على هذه فكرة، مطالبين بتعيين رئيس وزراء من صفوفهم.
ماكرون يتجه نحو قبول استقالة أتال
سط هذه الفوضى، خرج الرئيس الفرنسي عن صمته بعد ثلاثة أيام من نتائج الانتخابات التشريعية المبكرة، حيث دعا، في رسالة نشرتها الصحافة المحلية، «الجميع إلى الانخراط في حوار صادق ومخلص لبناء غالبية صلبة تكون بالضرورة ذات تعددية، ومبنية حول بعض المبادئ الرئيسية للبلد والقيم الجمهورية الواضحة والمشتركة ومشروع واضح».
وأوضح أنه سيقوم «بتسمية رئيس الحكومة في ضوء هذه المبادئ» بعد أن «تبني القوى السياسية تسويات».
في انتظار ذلك، أكد ماكرون أن الحكومة الحالية برئاسة غابريال أتال «ستواصل مسؤولياتها، بحيث ستكون مسؤولة عن تصريف الأعمال كما جرت العادة الجمهورية».
لكن مصادر متطابقة، أكدت، يوم الجمعة، أنه فيما يتعلق باستقالة أتال، التي رفضها إيمانويل ماكرون يوم الاثنين الماضي، من أجل «ضمان استقرار البلاد» فمن الممكن أن يقبلها يوم الثلاثاء المقبل. لكن هذا التاريخ ما يزال من الممكن أن يتغير. ورشحت هذه الأخبار، وفق مصادر متطابقة، عن الاجتماع الذي عقده الرئيس إيمانويل ماكرون، يوم الجمعة في الإليزيه، مع العديد من الشخصيات البارزة من، بمن فيهم رئيسا الوزراء الحالي غابرييل أتال، والسابقة إليزابيت بورن، ووزير الداخلية جيرار دارمانان،
في اجتماع أكدت وسائل إعلام نقلا عن مصادر متطابقة إن جوه كان متوتراً وبارداً. خلال الاجتماع، دعا ماكرون معسكره إلى «التهدئة والتكاتف» حسب ما أورد تلفزيون «بي ف م تي في». كما تطرق الرئيس الفرنسي خلال هذا الاجتماع إلى موضوع رئاسة الجمعية الوطنية التي من المقرر التصويت عليها يوم 18 تموز/يوليو الجاري. وأوضح أن هذا سيكون أول تصويت «لتوضيح الوضع» وفق ما أوردت وسائل إعلام فرنسية.
السيناريوهات المتوقعة
في ضوء ما سبق ذكره، وفي ظل أغلبية واضحة على مقاعد قصر بوربون (الجمعية الوطنية) فإن خطر الانسداد المؤسسي أصبح حقيقياً فعلاً،
كما يحذر العديد من المراقبين. وثمة مجموعات سيناريوهات محتملة في الأيام أو الأسابيع المقبلة:
أولا، أن يجدد الرئيس ماكرون للحكومة الحالية. وهي فرضية تبدو شبه مستحيلة، في ظل عدم وجود الدعم الكافي في الجمعية الوطنية. وبالتالي، فإن الحل الوحيد أمام المعسكر الرئاسي هو على شركاء، وإلا فإن إسقاطه من خلال مقترح حجب الثقة سيكون سهلا وفي متناول الجميع.
ثانيا، أن يحكم تحالف اليسار الذي لم يحصل على الأغلبية المطلقة، لكنه حصل على عدد المقاعد الكافية للمطالبة برئاسة الوزراء. ولكن التعايش مع ماكرون ضمن حكومة أقلية، سيعرض القوى اليسارية لتهديد دائم يتمثل في «الإطاحة بها» من قبل مجموعات أخرى، من خلال مذكرات لحجب الثقة عنها. ويكمن السيناريو الثالث، في حصول عهد بين اليسار، ومعسكر الرئيس إيمانويل ماكرون، دون حزب «فرنسا الأبية» اليسارية الراديكالية بزعامة جان ليك ميلانشون. غير أن هذا السيناريو، يستبعده غالبية المراقبين والمحللين، في ظل رفض ائتلاف اليسار لحكومة تمتد إلى حزب «النهضة» الحاكم وحلفائه. وللتوضيح، إذا تخلى بقية اليسار عن حزب «فرنسا الأبية».
في حين، يتمثل السيناريو
الرابع في أن يحشد معسكر الرئيس ماكرون نواب حزب «الجمهوريين» اليميني المحافظ، الرافضين لترك مفاتيح رئاسة الوزراء لليسار. وهو الحل الذي يقترحه الجناح اليميني في المعسكر الرئاسي،
ولا يبدو الجناح اليساري داخل هذا المعسكر متحمسا له كثيراً.
وقد استبعد لوران فوكييه، الشخصية القوية في حزب «الجمهوريين» القادم الجديد إلى الجمعية الوطنية، المشاركة في «مفاوضات وائتلافات لبناء أغلبية غير طبيعية». وحتى في حالة المشروع الفردي، فإنه لن يكون بوسع هذه الحكومة الاعتماد على الأغلبية المطلقة. ويبدو – حسب مراقبين- سيناريو تشكيل ائتلاف واسع، ضد حزب «التجمع الوطني» اليميني المتطرف وبدون «فرنسا الأبية» اليساري الراديكالي،
يبدو الفرضية الأكثر احتمالا، وهي الوحيدة التي من شأنها أن تجعل من الممكن الحصول على الأغلبية المطلقة. ثمة أيضا سيناريو تشكيل ائتلاف قادر على جمع أكثر من 50 في المئة من النواب خلف اسم رئيس الوزراء والعقد الحكومي، على غرار ما هو حاصل في الديمقراطيات البرلمانية بدول كألمانيا أو إيطاليا، هذه أيضاً الفرضية التي طرحها بعض القادة السياسيين قبل الجولة الثانية من الانتخابات متحدثين عن «حكومة وحدة وطنية» أو «حكومة مؤقتة».















