الدوحة- “القدس العربي”: لم يَحُل يُتْم التشكيلية الجزائرية باية محيي الدين، التي عاشت طفولة صعبة، دون تحقيق طموحاتها وشقّ طريقها في مجال الفن، الذي اقتحمته بالفطرة، وصولاً للعالمية، مع تحوّلها لواحدة من أيقونات الفن الحديث، ألهمتْ فنانين عالميين، على غرار بابلو بيكاسو، الرسام والنحات الإسباني، الذي يعتبر من أعظم فناني القرن الـ20، والذي أطعمتْه طبق الكسكسي المعروف لدى الشعوب المغاربية.
اكتشف جمهور العاصمة القطرية الدوحة قصة الفنانة الجزائرية باية محي الدين (1931 – 1998)، وتعرّفَ على قصتها الملهمة وتفاصيل حياتها، وتاريخها الفريد والاستثنائي برواية مَن عاصرها في ذلك الزمن، منذ لفتت انتباه عمالقة المدرسة السريالية وألهمتهم لرسم لوحات، سمى إحداها بيكاسو على سبيل المثال “نساء الجزائر”. لوحة نساء الجزائر الفريدة رسمها بيكاسو تأثراً بسحر الروح الشرقية، من وحي تعامله مع الجزائرية باية محي الدين، الفنانة على السليقة، وهي لم تدخل مدرسة في حياتها. بيعت اللوحة “في مزادات “كريستيز” في نيويورك عام 2015 بمبلغ 179 مليون دولار، واعتُبرت واحدة من أغلى اللوحات في العالم.
وعلى مدى أسابيع، تعرّفَ عشاق الفن في مكتبة قطر الوطنية على شخصية باية محي الدين، التي ولدتْ باسم فاطمة حداد، وهو اسمها الأصلي، ثلاثينيات القرن الماضي، في برج الكيفان، وهي من ضواحي العاصمة الجزائر، وكيف تيتَّمت وهي صغيرة لم يتجاوز عمرها الخمس سنوات، لتعيش مع جدتها التي كانت مساعدة لسيدة فرنسية، وكانت تلك علامة التغير في حياة باية.
مسيرة عريضة لفنانة ملهمة
وشهد المعرض، منذ افتتاحه في مكتبة قطر الوطنية، بالشراكة مع المتحف العربي للفن الحديث (متحف)، إقبال الجمهور، الذي اكتشف أعمال الفنانة التشكيلية الجزائرية الشهيرة باية محي الدين ومسيرتها الفنية، وذلك ضمن فعاليات العام الثقافي قطر- الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب آسيا 2022.
واحتفى المعرض- وعنوانه “باية محي الدين: استكشاف الألوان والطبيعة”– بالمسيرة الفنية العريضة للفنانة باية التي تمتد لما يقرب من ستة عقود، وفتح نافذة على حياتها المليئة بالأحداث الفارقة من الأربعينات حتى نهاية التسعينات من القرن الماضي.
ويقدم المعرض 18 لوحة تجسد الموضوعات والمحاور التي طالما تبنّتها باية طوال حياتها، وتكشف العناصر الخيالية وغير الخيالية التي تردد صداها في أعمالها المختلفة.
والزائر لمكتبة قطر الوطنية يقف أمام التعاريف المصاحبة للوحات، ويتابع خط زمن الفنانة التي نشأت يتيمة، حتى تحول مسار حياتها منذ عام 1942، حينما زارت الرسامة والفنانة مارغريت كامينا حديقة “المعمرة” الفرنسية التي تعمل لديها جدة باية (اسمها مشتق من كلمة باي التركية التي كانت ترمز للوالي)، واكتشفت موهبتها المميزة، وعرضت عليها تبنّيها، والانتقال للعيش معها في الجزائر العاصمة.
وبدأت قصة الفتاة النحيلة، التي أصبحت أيقونة الفن الحديث في الدول الغربية، والمجهولة إلى حدّ كبير في الوطن العربي، بتماثيل صغيرة تشكّلها من الطين لـ”حيوانات” وشخصيات ينسجها خيالها الخصب، فحظيت بدعم راعيتها التي قدمت لها الألوان والأدوات التي اقتحمت بها عالم الفن التشكيلي.
وانتقيت الأعمال التي اكتشفها جمهور مكتبة قطر الوطنية من ثلاثة مصادر، وهي مجموعة المتحف العربي للفن الحديث (متحف)، ومكتبة قطر الوطنية، بالإضافة لعدد من المقتنيات من مجموعات خاصة في الدوحة ورجال أعمال أعجبوا بفنها.
ونظمت المكتبة، في وقت سابق، جولة إعلامية في المعرض، حضرها الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري، وزير الدولة ورئيس مكتبة قطر الوطنية، الذي علّق قائلاً: “نحتت باية محي الدين لنفسها مكانة مرموقة في فضاء الفن التشكيلي، وأصبحت من أهم الفنانين في الجزائر والعالم العربي، بل وفي العالم بأسره”.
وبحسب المنظمين للمعرض “كان الهدف الاحتفاء بحياة باية محي الدين، ومسيرتها الفنية ضمن رسالة المكتبة الساعية إلى إطلاق المبادرات وتنظيم الفعاليات الفنية التي ترسخ مكانة قطر وجهة ثقافية عالمية.
فتاة جزائرية استثنائية
ويسرد المعرض، الذي اختُتمت فعالياته، العديدَ من محطات الفنانة الجزائرية، وكيف أن اللوحات والمنحوتات التي أبدعتْها وصلتْ عبْر والدتها بالتبني لبعض الفنانيين الفرنسيين، وحظيت باهتمام النحات الفرنسي جون بيريساك، وبدوره عرض رسوماتها على زميله إيمي مايخت، وهو يتاجر أيضاً بالتحف الفنية، لتشق تلك الأعمال طريقها في بيوت وقصور ومعارض مدينة الأنوار باريس.
اكتشفت نخب فرنسا وأوروبا موهبة الجزائرية باية اليافعة، وعمرها 15 عاماً لا غير، وشاركت في المعرض الدولي للسريالية. ثم أقيم لها معرض منفرد، وخصصت لها المجلات الفنية والثقافية أعداداً تحدثت عن مسيرتها، حتى أن مجلة “فوغ” نشرت صورتها، وكانت تلك بداية علاقتها مع الفنان بيكاسو، وصنعت منحوتات خزفية ظلت راسخة.
جمهور مكتبة قطر الوطنية اكتشفَ أيضاً تجربةً فنية مختلفة، وتعرّفَ على قصة باية والأحداث التاريخية الفاصلة في حياتها، حيث إنها توقفت عن الرسم خلال الثورة التحريرية ضد الاستعمار الفرنسي، وكانت يومها انتقلت إلى مدينة البليدة، بعد زواجها مع الموسيقار في الفن الأندلسي الحاج محفوظ محيي الدين. لتعود وتستكمل مسيرتها ورسوماتها بعد استقلال الجزائر عام 1962، ونظمت عدداً من المعارض في وطنها وخارجه، ويكتشف عشاق الفن في لوحاتها وطنها الجزائر، الذي شكّل نبعاً لإلهامها، وهي التي تشبثت بأرض أجدادها.
وتروي قصاصة في معرض قطر أن الفنانة باية محيي الدين رفضت عرض السفير الفرنسي في الجزائر، حيث زارها عام 1995 في بيتها لمنحها الجنسية الفرنسية، وتسهيل انتقالها إلى فرنسا، بعد اشتداد الأزمة الأمنية التي شهدتها البلاد، وفضلت البقاء في الجزائر، حتى توفيت في عام 1998.
وحتى بعد وفاتها تحظى أعمال باية بتقدير كبير، بألوان النساء الحاضرة فيها، ولوحاتها المفعمة حركة والمليئة بالشوق لوطنها الجزائر، لتبهر العالم برسومتها الشبيهة بالأحلام والزاخرة بالرموز والزخارف، العاكسة للتراث الثقافي للجزائر.
وقيل عنها: “إنها الفنانة التي تم اكتشافها صدفة فشبت تحت جناحي طيف من المثقفين والفنانين العظماء”. لكن ما ميّزها أيضاً حفاظها على أصالتها التي تجسدها تلك الأعمال الخالدة، في كل مكان.