بعد مناظرة الأربعاء بين الرئيس إيمانويل ماكرون وزعيمة اليمين المتطرف في فرنسا مارين لوبان تحضيرا للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية يوم الأحد، فإن مشكلة كل منهما هي إقناع الناخب الفرنسي بدعمهما؛ لأن الخيار سيكون أحلاهما مراً، بين زعيم مقيت وزعيمة مكروهة، لكن مشكلة ماكرون كما تقول صحيفة “نيويورك تايمز” في تقرير أعده كل من نورميستو أونيشسي وكونستان ميهو، تكمن في “الكراهية التي زرعها”.
وأشارا إلى نيكول ليوت، التي تعد من أشد المناصرين لماكرون في مدينة لو هارف الواقعة شمال- غرب فرنسا، وعبّرت عن سعادة لرؤيته في حملته الانتخابية، لكنها قلقة من الجولة الثانية لأنها لم تر في حياتها رئيسا يحظى بكراهية الناس مثل ماكرون. وتقول ليوت (80 عاما): “كان هناك رؤساء لم يحظوا بكراهية مع أنهم لم يكونوا قديسين”، مشيرة إلى ما صار يعرف بـ”التعبيرات الحمقاء” لماكرون “مثل قوله لشخص هل تبحث عن وظيفة، فقط اقطع الشارع”.
وفي احتجاج حُرقت فيه إطارات السيارات والدخان غطى السماء في لو هارف، أضافت ليوت: “ربما لن يغفر له الناس استخدامه هذه الأخطاء في اللغة والمواقف”.
وتضيف الصحيفة أنه لم يحدث أن تعرض رئيس للكراهية بين قطاعات كبيرة في فرنسا مثل ماكرون. وكانت النتيجة تحوله إلى شخصية قريبة من النخبة ومنفصلة عن حياة الناس العاديين الذين تعرض تقاعدهم وضمانات الحماية للتهديد بسبب جهوده لجعل الاقتصاد مناسبا للمستثمر. وسيكون هذا الحقد، الذي لا يعرف مدى عمقه، عاملا حيويا وربما حاسما في الانتخابات ضد منافسته لوبان. وأعطت الاستطلاعات الأخيرة ماكرون تقدما بنسبة 10 نقاط على لوبان، وهو تقدم أوسع مما يشير له البعض في حملته، لكنه ثلث تقدمه في حملته الانتخابية التي خاضها قبل خمسة أعوام.
ويقول نيكولاس ديمانش، الصحافي المخضرم والذي غطى خمس حملات رئاسية سابقة، ومؤلف كتاب “ماكرون: لماذا كل هذه الكراهية؟” إن “ماكرون والكراهية التي يثيرها غير مسبوقة”، مضيفا: “إنها نابعة من انحياز معين، فهو رئيس الأغنياء ورئيس الاحتقار”. مقارنة مع لوبان التي ركزت في استراتيجية طويلة الأمد على بناء ما أطلقت عليه “الجبهة الجمهورية” ضد القوة السياسية والتي يبدو حزبها التجمع الوطني الذي كان يعرف بالجبهة الوطنية، تهديدا لأسس الديمقراطية الفرنسية.
وأمام خيار بين رئيس يرونه محتقرا لهم ومرشحة لليمين غير مستساغة، فإن الكثير من الفرنسيين ربما بقوا في بيوتهم يوم الانتخابات. وحاولت لوبان تذكير الناخبين الفرنسيين بطبيعة رئيسهم المتغطرسة و”تلك الكلمات الرهيبة” و”الكلمات المحتقرة” كما فعل في الأسبوع الماضي بتجمع انتخابي في مدينة أفيغون، جنوب البلاد. وقالت: “إنها كلمات السلطة بدون تعاطف” حيث ردت الحشود بإصدار أصوات ساخرة.
وتحاول مع ماكرون التنافس على أصوات الناخبين الذين منحوا أصواتهم للمرشحين السابقين في الجولة الأولى التي عقدت في 10 نيسان/ أبريل والتي بات مصير كل منهما يعتمد عليها. وتعتبر الكتلة التي صوتت لليساري المخضرم جان لوك ميلانشون الذي حصل على المرتبة الثالثة. وفي معسكر اليسار يشعر الكثيرون أن ماكرون خانهم عندما مال نحو اليمين أثناء رئاسته. وتحاول لوبان مناشدة الذين يشعرون بالكراهية المتأججة والاحتقار بين معسكرها والكثير من معسكر ميلانشون.
وقال رولان ليسكور، المتحدث باسم حزب ماكرون “الجمهورية للأمام” إنه مقتنع بأن “رفض مارين لوبان” سيكون أقوى من كراهية الرئيس، والتي اعترف بها. والكراهية لا تتعلق بشخصية لوبان، كما يقول، ولكن “فوق كل هذا للأيديولوجية وتاريخها السياسي وبرنامجها الذي عندما تقرؤه ستجد أنه مضر بدرجة كبيرة”. إلا أن لوبان أصبحت واثقة جدا من نفسها ووسعت من جاذبيتها بعدما اتخذت عدة خطوات مدروسة لتلميع صورتها، وتجرأت على استخدام كلمة “سد” لنفسها وتوسلت ست مرات في تجمع انتخابي، داعية لمساعدتها على بناء “سد ضد ماكرون”. والدعوة لبناء السدود تؤكد الطريقة التي ستجري فيها عملية الاقتراع حيث سيفوز فيها الشخص المكروه بدرجة أقل. ويصدق هذا على الحملة التي يشارك فيها نفس المتنافسين في عام 2017.
ولو نظر للوبان في تلك الانتخابات على أنها جرافة لليمين، ففي هذه الحملة حاولت تقديم نفسها بصورة صديقة، وركزت على جانبها الإنساني. ولو نُظر لماكرون في تلك الانتخابات كوجه جديد يبشر بالتغيير لفرنسا المتحجرة، ففي هذه المرة بات ينظر إليه كارهوه بأنه ملك خبيث. ولم يستطع ماكرون الذي عمل في مجال الاستثمارات المصرفية قبل فوزه بالرئاسة، كسر الصورة عنه بأنه رئيس الأغنياء، وخاصة في مجال السياسات الضريبية، حتى بعد الدعم الهائل الذي قدمته الحكومة أثناء وباء كورونا. فقد أكد كلامه وتعليقاته الجارحة “التعبيرات الحمقاء” على مدى السنوات صورة عن رئيس غير متعاطف مع مشاكل شعبه. مما أدى إلى خلق انقسام ثقافي، فُتح عندما وصفت هيلاري كلينتون أتباع دونالد ترامب عام 2016 بـ”البائسين”.
ولم يساعد ذا ماكرون الذي لم يهتم بالحملات الانتخابية، حيث ظل مركزا على جولات دبلوماسية لوقف الحرب في أوكرانيا، وكذا محاولة إبعاد نفسه عن منافسيه. إلا أن هذا عزز رؤية الكثير من الفرنسيين عن عزلة الرئيس وتركيزه كل السلطات بيده واعتبر القيام بحملات انتخابية أمرا ليس مهما له. وعندما قرر القيام بحملات انتخابية، وجد نفسه وجها لوجه مع المشاعر المتأججة التي شكلت معظم رئاسته. وقال له رجل الأسبوع الماضي: “لم أر رجلا مثلك في الجمهورية الخامسة” متهما إياه “بالغرور” و”الاحتقار” من بين عدة أشياء.
وبدا ماكرون منزعجا بشكل واضح، حيث ظهر من حركة إصبعه على صدغه الأيمن.
ولا يحظى ماكرون بشعبية في الشمال الفقير الذي تم تجريده من صناعاته، وبات بالضرورة معقل لوبان. وفي مدينة دينين، أوقفته امرأة ووجهت له انتقادات حادة حول رئاسته وتعامله مع الوباء والمدارس. ورد عليها ماكرون: “أنت لا تعيشين في العالم الحقيقي” فردّت عليه: “نحن لا نعيش في العالم الحقيقي تخبرنا يا سيد ماكرون؟”.
وفي الحي الباريسي الفقير، أرجنتي، عبرت كلودين باسكوير، سكرتيرة المدرسة المتقاعدة والتي كانت تحمل كيسيْ مشتريات عن غضبها من كلام ماكرون الذي لا يفهم الواقع مثل وصفه محطات المترو بأنها الأماكن التي يلتقي الواحد فيها بالناس الناجحين أو الفاشلين، أو حديثه عن كميات الدقيق التي تصرف على دعم الفقراء. وقالت: “نتذكر هذه التعبيرات الحمقاء لأنها أهانت الناس”. وصوتت باسكوير لماكرون في 2017، لكنها اليوم لم تتخذ قرارا بعد.
وقال بيير روزانفالون، عالم الاجتماع والمؤرخ في الكلية الفرنسية، إن تصريحات ماكرون الحمقاء كانت “كارثية” وعززت من الاحتقار وكانت عاملا مهما في السياسة والمجتمع اليوم. وهي “عن العلاقة بين النخبة المغرورة والمجتمع المحتقر”. ولاحظ المؤرخ أن الاحتقار يجري عميقا داخل معسكر لوبان، مع أنه موجه ضد المهاجرين والأجانب وغيرهم من الذين يعتبرون في درجة حقيرة.
وقالت لوبان إنها ستزيد المساعدات لمن يصوت لها من خلال حرمان المهاجرين. ويرى روزانفالون أن لوبان فهمت هذه الدينامية وأن المعاناة الاقتصادية ليست عن المال بل ضرورة معالجتها من خلال الكرامة والاحترام وعبر الشعور بالهجر. ويعلق المتحدث باسم حزب ماكرون أن معظم الغضب عليه نابع من سوء فهم رئاسته التي قارنها برئاسة شارل ديغول وفرانسوا ميتران، أو ما عرفتا بالرئاسة الملكية. و”عندما يوصف بالعجرفة والبعد وحتى الغرور، فأعتقد أن هذا راجع لطريقة ممارسته للسلطة التي تعد أقل شعبية من الآخرين”، وأدت هذه الطريقة لإبعاد الكثيرين ممن صوتوا له عنه.
وفي تجمع للوبان قالت رشيدة سيدي (53 عاما) إنها صوتت عام 2017 لماكرون باعتباره حاجزا ضد اليمين، ثم صوتت في الجولة الأولى للخضر وهي تواجه الاختيار “بين الوباء والكوليرا”، وتخطط لمنح صوتها للوبان كجزء من الجبهة المعادية لماكرون. وأضافت: “قال كل شيء وكان العكس، واحتقر الكثير من الناس” مشيرة إلى أنه تصرف كملك.
وفي لو هارف، يشعر الطالب بلال بنعودة (22 عاما) بالقلق، فقد صوّت لماكرون في الجولة الأولى، إلا أن شقيقه وكل من حوله صوتوا لميلانشون، وهم يخططون للبقاء في البيت في يوم الجولة الثانية. وقال: “في المرة السابقة كانت الانتخابات عن معاداة لوبان. أما اليوم فهي عن معاداة لوبان وماكرون”.