د. مهدي عامري ( المادة الفكرية و المعرفية )
إحسان بنسعدان ( الكتابة و التوضيب )
كلنا نتعرض للتوتر بشكل أو بآخر في حياتنا اليومية.
قد تعاني من التوتر وتتعرق وترتجف أطرافك في مقابلة العمل أو في مواقف أخرى، الأمر الذي يشعرك بالخجل ويقودك إلى العزلة الاجتماعية ويسبب لك الأمراض الجسدية والنفسية.
تتعدد أسباب التوتر ولكنك تستطيع التغلب عليها بطرق بسيطة وسهلة التطبيق.
كيف تتغلب اذا على التوتر في محيط العمل؟
أشرنا في الدروس التفاعلية السابقة الى المكونات الأربع للكائن البشري و هي العاطفة و البدن و النفس و الروح. و ذكرنا أن التوازن المطلوب بين هذه المكونات الأربع هو الذي يخلق في نهاية المطاف تلك الحالة من التناغم والانسجام النفسي الذي يمكن أن يصل اليه كل فرد يبحث عن التناغم و الاتزان النفسي و الروحي.
و لعل من بين المصادر الأساسية للضغط و التوتر داخل العمل يتمثل في القائمة الطويلة من مهام العمل التي يتحتم على كل شخص أن يقوم بها و لا ينجح في انجازها.
و في هذا السياق هناك دراسة حديثة تكشف أن 50% من الموظفين في الولايات الأمريكية المتحدة الذين يقضون 12 ساعة يوميا للقيام بأنشطة متنوعة يصابون بالإنهاك و الاجهاد و هناك نسبة أخرى من هؤلاء المأجورين ينسون استراحة الغداء على سبيل المثال جراء التوتر المرتبط بعملهم.
و ثمة مصدر آخر من مصادر التوتر المهني و هو الشعور بالعجز عن التقدم في العمل و هذا الشعور بالعجز تفسره عدة أسباب من ضمنها رفع سقف التحديات أي تحديد أهداف كبرى و عظمى و أحيانا غير واقعية.
دعوني أقدم بعض الأمثلة…
هناك بعض المهنيين في بداية مسيرتهم المهنية يتخبطون في سلسلة طويلة من الاكراهات منها كونهم على سبيل المثال المعيلين الوحيدين لأسرتهم أو أنهم لا يستطيعون الحصول على ترقية الا بالتضحية و الجلوس لساعات طويلة في العمل و هذه المسألة تزيد لا محالة من حدة التوتر. و أكثر من ذلك هناك من لا يستفيد من الاجازة بشكل طوعي لأجل الحصول على ترقية او اضافة الخبرة المهنية اللازمة خاصة بالنسبة للأشخاص المبتدئين و الذين لديهم طموح كبير للترقي المهني و الوظيفي.
و هناك مصدر آخر من مصادر التوتر نريد أن نشير اليه و هو الشعور الدائم بالخوف من فقدان العمل. و هذا الخوف المتكرر من فقدان الوظيفة أو الاحساس بانعدام الأمان الوظيفي سوف يضعف من عزيمة أي شخص يضع نفسه في هذا الموقف.
و لا يخفى عليكم أن مصدرا آخر من مصادر التوتر في العمل هو الانعزال عن فريق العمل فهناك أشخاص ليس لديهم روح الفريق و يحبون أن يعملوا منفردين و ربما يعود ذلك لطبيعتهم التي يغلب عليها الرهبة أو الخوف أو الخجل. و هذا الانعزال عن فريق العمل قد ينظر اليه بطريقة سلبية…
قد يكون الشخص المنعزل ذكيا و فعالا في عمله و لديه الكثير من الأفكار الابداعية اضافة الى طاقة هائلة في العمل و لكن كونه منعزلا في العمل و غير قادر على ربط علاقات اجتماعية دافئة مع زملائه في العمل قد يزيد من توتره.
هذه اذا أهم المصادر الرئيسية للتوتر داخل العمل و يمكننا أن نضيف اليها أيضا الافراط في استعمال الأجهزة الالكترونية و بالخصوص المبالغة في تصفح البريد الالكتروني و هذا أمر آخذ في الازدياد بجميع دول العالم بحكم العمل عن بعد الذي دفع الكثير من الأشخاص الى الاقتصار على العمل المنزلي بما يضاعف لا محالة من فرص التحقق من البريد الالكتروني في أوقات لا علاقة لها بالزمن الاداري.
ان تعسف بعض المدراء أم ما يشار اليه بالبيروقراطية في محيط العمل من الأسباب الأساسية الأخرى التي ترفع من منسوب التوتر المهني. و في هذا الباب هناك دراسات عديدة تشير الى أن البيروقراطية في دول العالم الثالث أو الدول السائرة في طريق النمو التي ننتمي اليها تكبد الاقتصادات خسائر كبيرة جدا ربما تقدر بملايين الدولارات كل سنة.
وهذه البيروقراطية الناتجة عن التراتبية الشديدة ورغبة بعض المدراء في ممارسة الاستبداد مستغلين وضعهم الاعتباري كمدراء وكأشخاص لديهم السلطة العليا في ادارة الشؤون المؤسساتية… هذه البيروقراطية تعد مصدرا آخر من مصادر التوتر.
و حتى نفهم بعمق مختلف تمثلات و تجليات البيروقراطية يجب أن نربط التفكير البيروقراطي بالثقافة التي ننتمي اليها و التي تنتمي الى عقلية ذكورية و هي التي تحكم بشكل شبه شمولي و دون استثناء جميع دولنا العربية . فنحن بعيدون كل البعد في ممارساتنا المهنية عن الكثير من الدول الغربية التي تهيمن داخل أوساطها المهنية علاقات الزمالة و الصداقة و هذا ما يسمى بالتواصل الأفقي.
ان الكثير من الدراسات في علم القيادة تشير الى أنه من بين الطرق الأساسية لتطوير العمل داخل أي مؤسسة من المؤسسات نجد الجانب الاجتماعي و المقصود بذلك تنظيم أنشطة ترفيهية داخل فضاء العمل – بين الفينة و الأخرى – لأجل بناء روح الفريق و لأجل كسر الحواجز بين المدير و بين المأجورين.
ان هذه الأنشطة التي تقام على هامش العمل – وفق الدراسات الحديثة – تسهم بشكل كبير في رفع حماس الموظفين وتشحنهم بطاقة ايجابية فيجب أن لا ننسى أن فضاء العمل لا يساوي فقط الانتاجية و مضاعفة الأرباح و تدوير عجلة الاقتصاد و لكنه مكان متميز لتبادل قيم التآزر و التعاطف…
و يجب أن لا ننسى أنه الى جانب الجزء الربحي فان أي مؤسسة تعد فضاء حاملا للقيم و يجب أن تعمل على تطوير هذه القيم و أنسنتها و تغليب القيم على التنافسية الطاحنة و على التراتبية التي لا معنى لها… يجب أن تكون هناك تراتبية و هذه مسألة أكيدة (مدير – مساعد مدير…) ولكن لا ينبغي أن تتم هذه التراتبية في جو من الاستبداد و من التسلط ربما يولد لدى الكثيرين من الأشخاص الاحساس بالمرارة. فهناك الكثير من الأشخاص عندما يذهبون للعمل يحسون بالمرارة و كأن لسان حالهم يقول (اليوم سوف أذهب الى العمل بل الجحيم الذي أكتوي بنيرانه كل يوم! ..)
ان التوتر في العمل ظاهرة عالمية آخذة في التوسع. و في الآونة الأخيرة هناك الكثير من الدراسات التي بدأت تعنى بتحليل ظاهرة التوتر النفسي في العمل فهنا أصبحنا نتحدث عن العمل ليس فقط كإنجاز أو كشيء روتيني يقوم به الشخص من أجل استحقاق المال في نهاية الشهر..
ان تكرار النشاطات نفسها داخل العمل لمدة طويلة يصيب المهني بالروتين بل يمكن أن يصيبه بالملل القاتل للإبداع.
اذا كان المهندس يعيد نفس العمل لسنوات كيف سوف يصبح شعوره و معنوياته بعد هذا التكرار ؟
من المؤكد أن هناك دائما مجال للتحيين ولكن المطلوب بالنسبة للمدراء و بالنسبة للقادة و المؤسسات أن يضعوا باستمرار أشخاصا جددا في مسؤوليات جديدة مع الجس المستمر للنبض الوظيفي للمأجورين.. فاذا أحسست أن الموظف الفلاني بدأ يمل فيجب أن تسند له وظيفة جديدة أو تحفزه عن طريق وضعه في فريق آخر…
ان التوتر في محيط العمل ظاهرة عالمية آخذة في التضخم و لعل الانهماك الى حد الانغماس الكلي في العمل و نسيان الجانب الآخر من الحياة و هو الصحة و الأكل المتوازن و التمارين الرياضية… لعل ذلك يهدد الانسان بالدمار الشامل.
ان الأشخاص الذين ينهمكون في العمل و ينسون أن الجسم يجب ان يستفيد كل يوم من ثلاث وجبات صحية تمده بالعناصر الخمسة من خضر و فواكه متنوعة اضافة الى شرب المياه الكافية و الحركة الدؤوبة… ان هؤلاء يلقون بأبدانهم و أرواحهم في أتون الجحيم.
و يشير هنا الكثير من الأطباء و العلماء المختصين بالتغذية و الرياضة الى أنه على الأقل بالنسبة للأشخاص البالغين يجب التقيد الصارم بممارسة رياضة الهرولة أو المشي السريع أربع مرات في الأسبوع لمدة ثلاثين دقيقة و هذا هو الحد الأدنى المطلوب.
ان الغالبية العظمى من البشر بعيدون بسنوات ضوئية عن هذه الوصفة السحرية التي تتيح لكل من يجربها الحصول على التوازن بين العمل و الجانب الصحي- الاجتماعي.
قلنا أن التوتر في محيط العمل ظاهرة عالمية آخذة في التضخم. فما الحل اذا ؟
هناك حلول كثيرة من أهمها و أنجعها توظيف المعالجين الاجتماعيين لضمان السلامة الصحية و النفسية داخل المؤسسات الادارية.
ان أمكنة العمل هي فضاءات للعيش المشترك قبل أن تكون فضاءات للكسب الحصري للرزق.
ينبغي اذا توظيف مرافقين و استشاريين نفسيين مهمتهم تخفيف الضغوط التي يعيشها الكثير من المستخدمين و الموظفين رجالا و نساء داخل فضاءات العمل و بخاصة في ظل الظروف الحالية لجائحة كورونا التي ضربت جميع دول العالم فنتجت عنها سلسلة معقدة من الاحتقانات و مجموعة كبيرة من المشاكل تهم صعوبة التقسيم المثالي و تحقيق التوازن بين مهام البيت و مهام العمل و مهام التدريس و مرافقة الأطفال اذا تعلق الأمر بالآباء و الأمهات الذين يواكبون أبناءهم عن بعد.
و أنا أعتقد أن هذه المرافقة النفسية ليست ترفا فكريا أو مزية يمكن أن تجود بها المؤسسة الادارية على مستخدميها بل هي في صلب حقوق الانسان .
ان أنسنة العمل واجبة. فكيف يمكن للشخص داخل محيط العمل أن يكون معطاء اذا لم يكن يعيش ظروفا مهنية جيدة و اذا لم يكن يحس بالانتماء الحقيقي الى فضاء العمل؟؟
و بصفة عامة هناك لائحة غير منتهية من الحلول و المهارات التي يمكن أن يتملكها أي مهني يريد أن يتخلص من ضغوط العمل. و يمكن أن نلخصها في النقاط التالية :
- الابتعاد عن المشاكل : و معنى ذلك أنه في الكثير من المؤسسات و المنظمات هناك قابلية دائمة لاشتعال بعض المشاكل و بعض الصراعات سواء على مستوى أفقي او عمودي داخل فضاء العمل. و هذه المشاكل و الصراعات من الأمور التي تؤثر بشكل سلبي على الصحة المهنية و الجسدية و العاطفية للعامل. لذلك فمن الأهمية بمكان أن يبتعد المهني عن النزاعات و أن لا يقع ضحية لبعض الشجارات المفتعلة من بعض الزملاء في العمل فيجب عليه أن يبتعد عن القيل و القال و مشاركة حياة الآخرين بأمور لا علاقة لها بالعمل سواء كانت أمورا تتعلق بالسياسة أو الأديان أو المعتقدات الشخصية…
- تنظيم المهام : ان تنظيم المهام من الطرق التي تساعد على التخلص من التوتر في العمل. فيجب أن يكون هناك جدول رسمي للأعمال و ينبغي تحديد الأهداف بطريقة واقعية و مقيدة بالزمان و المكان. ان المهني الفعال هو من يخطط للأهداف الأكثر أهمية و يمكن أن يسقط الأهداف ذات الأهمية البسيطة أو أن يفوض أشخاصا آخرين للقيام بالأعمال الأقل أهمية من أجل تقليل التوتر. ان التنظيم الدقيق للمهام يرفع من كفاءة الشخص و مستوى أدائه داخل العمل.
3. ممارسة الرياضة بانتظام : ان ممارسة الأنشطة الرياضية تنشط القلب و الأوعية الدموية و عندما نتحدث عن الرياضة فإننا نتحدث في الوقت نفسه عن التغذية السليمة لأنك عندما تمارس الرياضة فإنك تبرمج في لاوعيك الاهتمام بالتغذية السليمة و المتوازنة.
4. الحصول على قسط كاف من النوم و الخروج من دائرة الأوهام المتعلقة ببعض الأفكار التي مفادها أنه يجب أن تسهر الليالي و أن تكون هناك ليالي بيضاء مخصصة لاستكمال دراسة بعض الملفات فالخبراء و الأطباء ينصحون بالحصول على النوم الكافي لأنه عندما تنام في عطلة نهاية الأسبوع أو الوقت المستقطع من العمل في النهار فهذا غير كاف و لا يعوض نوم الليل الذي يعتبر ذا جودة عالية فالحصول على النوم الكافي هو الطريقة المثلى التي تخلصك من ضغوط العمل.
التأمل: و هناك تمرين آخر رئيسي يمكن لأي شخص أن يقوم به للتغلب على التوتر في العمل و هو التأمل و الاسترخاء. فالتأمل مهم جدا لكل شخص يريد التخلص من الضغوطات فيجب من حين لآخر – ربما خلال الويكاند – الذهاب إلى الطبيعة و الخروج من هذه المدنية الملوثة التي نعيش في أحضانها و الذهاب لمكان هادئ لممارسة تمارين اليوجا.
ان التأمل يمكن أن يكون بالموسيقى أو بالانصات الجيد لخرير المياه أو بإدماج عناصر طبيعية أخرى مثل صوت أمواج البحر فيجب أن يكون التأمل عنصرا رئيسيا يساعد على التركيز الهادف و أيضا على التركيز نحو التفكير في اللاشيء. فالهدف من التأمل هو تفريغ الدماغ من شحنات التوتر عن طريق تمارين متعلقة بالتنفس و الاسترخاء و الاستماع للموسيقى الهادئة.
اننا نعيش جميعا في مدن ملوثة. ان المدنية الملوثة جزء لا يتجزأ من الثقافة المعاصرة الجرافة التي ننتمي اليها.
ان ثقافتنا المعاصرة تسلط الضوء على انجازاتنا المادية بشكل مبالغ فيه. فدائما هناك العديد من الأصوات في ثقافتنا المعاصرة تهتف :
(كن غنيا..كن موهوبا… كن سريعا…كن وافر الانتاج…كن مدهشا… كن ناجحا… اياك ان تفشل… كن دائما ايجابيا… ينبغي ان تكون تنافسيا في العمل… ينبغي ان تسعى لامتلاك المزيد و المزيد و المزيد من المشاريع و الأموال و العقارات و السيارات و و و ….
ان هذه التوصيات الفاشية متواترة في ثقافتنا المعاصرة. لكن أهم شرط للحصول على التوازن لا علاقة له البتة بفلسفة الوفرة.
ان التوازن الحقيقي هو الرضا بالقليل و الامتنان للخالق العظيم بما جاد به عليك.
ان الرضا هو المفتاح السحري للسعادة.
و لعلك تشاطرني الرأي… السعادة كلمة طوباوية و قيمة صعبة المنال و أهم خطوة من أجل الوصول الى حالة الاتزان و الرضا هي التقبل و القناعة بما هو موجود بما يعني عدم السعي الى المزيد و المزيد في حد ذاته و الاكتفاء بما هو موجود بين يديك.
ان العمل شيء مهم في حياة الانسان. ان النجاح الوظيفي ومراكمة الخبرة شيء عظيم و لكن العمل وحده لا يصنع النجاح.
العمل جزء من النجاح و هو وسيلة لكسب لقمة العيش و نجاح الانسان الحقيقي هو التوازن و الاعتدال بين المكونات الاربع للإنسان و هي العقل و البدن و العاطفة و الروح.