لا شك أن أزمة كورونا الصحية كانت لها تداعيات اقتصادية واجتماعية، ربما غيرت كثيرا مما كان يفترض أنه “ثابت” على مستوى العالم بأسره، من بين ذلك أنماط العمل، حيث انتقلت العديد من الوظائف إلى نمط الاشتغال عن بعد بصفة دائمة حتى بعد انخفاض حدة الأزمة بشكل ملحوظ.
ومجال الصحافة والإعلام ليس استثناء، فبدوره تعرض لتأثير “كورونا” وخصوصا الصحافة المكتوبة بصنفيها الورقية والإلكترونية.
وعلى المستوى الوطني، فحتى قبل الجائحة كانت هناك تحذيرات من منحنى “السقوط الحر” الذي عانت منه مقاولات الصحافة المكتوبة.
هذا السقوط ستزداد سرعته أكثر في ظل الجائحة. كما تفيد تقارير المجلس الوطني للصحافة في هذا الموضوع.
حيث أن صحافيين كثر تعرضوا لفقدان وظائفهم أو تخفيض أجورهم “الهزيلة أصلا”. وكان هؤلاء من أكثر الفئات المتضررة من الأزمة العالمية، مع التأكيد على غياب الدعم والمواكبة من طرف الوصيين على القطاع، بالإضافة لإفلاس العديد من المقاولات الصحافية واندثارها، وهو نفس المصير الذي يتربص بأخرى تعاني من تعثر في التدبير المالي، بسبب غياب “الإعلانات”، بمعنى المصدر الأساسي للتمويل، والسبب الأول في هذه السلسلة المترابطة هو ضعف الإقبال من طرف القارئ أو المتابع، الهدف الرئيسي من عملية إنتاج الخبر.
ولأن المصائب لا تأتي فرادى، فحتى الممارسة المهنية تعرضت لتأثير كبير، خصوصا مع ظهور ما بات يعرف “بالمواطن الصحافي”. حيث أصبح الجميع ينتج وينقل ويتقاسم الخبر بسرعة فائقة وفي قوالب جديدة، مع التأكيد على غياب الضوابط المعهودة، التي تقتضي التحقق والبحث والحصول على تصريحات ودلائل من المصدر قبل نقل الخبر بأمانة وحرفية، واحترام ضوابط الأجناس الصحافية الكبرى على غرار التحقيق والتقرير والحوار والمقال وغيرها.
وما يزيد الطين بلة هو ظاهرة “المؤثرين”، هؤلاء يستقطبون الجماهير ويجعلونهم ينتظمون في تكتلات افتراضية، كل يتابع ما يستهويه، وكل يغني على ليلاه. هؤلاء “المؤثرون” تمكنوا من شد المتابعين شدا جعل المتعهدين والمستشهرين وحتى السياسيين يبحثون عنهم، ويقدمون لهم الدعم المادي والمعنوي، بل يستدعونهم في اجتماعات رسمية تجعل منهم أشخاصا من علية القوم، مهما كان المحتوى الذي يقدمونه، ليس لسواد عيونهم، بل من أجل التابعين وتابعي التابعين، بمعنى الجمهور العريض.
وفي ظل هذه الفوضى العارمة، يجد الصحافي الذي تلقى تعليما أكاديميا نفسه في وضع لا يحسد عليه، فكيف سينتزع القراء والمتابعين من “المؤثرين”؟ وكيف سيواكب سرعة الصحافة المواطنة التي لا تتبع أي ضوابط ؟ وهو ما يجعله بين نارين ، ففي التحري والبحث يضيع الوقت، ويخرج الخبر وينتشر، قبل أن تكتمل سلسلة الإنتاج الخبري النموذجية التي يعتمدها الصحافي. أما النار الأخرى فهي أن يتخلى الصحافي المهني عن المبادئ والقيم، وما تلقاه في المعاهد المختصة أو الجامعات، وينزلق وراء إرضاء الأهواء المستجدة ويصبح منافسا للمؤثرين…
وللخروج من هذه المتاهة، يجب الانتباه لما يقترحه المتمرسون والعارفون بالميدان، وأقصد الصحافيون الخبراء، الذين راكمو تجربة كبيرة وانتقلو بين مختلف مواقع العمل الصحافي، وعايشوا أزمات مختلفة، جعلتهم أكثر نضجا وتبصرا. بالإضافة لمراجعة العلاقة بين الصحافيين الممارسين والهياكل المنظمة للمهنة كالمجلس الوطني للصحافة، بحيث يتم إحداث آلية على مستوى كل جريدة من خلالها يتم رفع الملاحظات والتوصيات بشكل دوري لأعلى المستويات. كل ذلك من أجل تثمين الصحافة بالمغرب وتجويد الأوضاع المهنية والاجتماعية للجسم الصحافي عبر تعزيز الأمن والاستقرار الوظيفيين.
ويبقى مفتاح كل هذه الإشكالات، بيد الصحافي بنفسه، حيث يتوجب عليه التمسك بضوابط العمل المهني، وأن تكون إنتاجاته وتحقيقاته جيدة لدرجة قلب الطاولة على الجميع، حينذاك سينتبه الجميع لوجوده وقوته وتميزه.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، تفشي ظاهرة سرقة المقالات الصحافية، والتقارير الإخبارية وظاهرة (النسخ واللصق : copier coller). فالمتابع ذكي بما يكفي لاكتشاف ذلك وانتشار نفس الخبر بنفس المتن بين المنابر، مع اختلاف الألوان، وهو ما يضرب بالمصداقية بعرض الحائط، ويجعل المتابع يمل من الأخبار. والأصح أن يتم تناول الخبر لكن من زاوية مختلفة، وهنا يمكن الحديث عن الإبداع الصحافي وعينه التي يمكن أن ترصد ما لا يراه الغير.
من جهة أخرى، فالصعوبات المادية التي تواجهها المقاولة الصحافية لا يجب أن تكون مبررا لاستخدام أشخاص لا يتوفرون على الحد الأدنى من التكوين الأكاديمي في علوم الصحافة والإعلام، تحت مسمى “مراسلين”، وما حدث خلال واقعة الطفل “ريان” من تجاوزات يبقى أكبر دليل على أن مهن الصحافة ليست متاحة لمن هب ودب.