في أشبه ما يكون بالزواج الكنسي، ارتبط اسم أحمد التوفيق بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية طيلة العقدين الماضيين. فالرجل على رأس الوزارة منذ سنة 2002 (ثلاث سنوات بعد اعتلاء الملك محمد السادس العرش)، لدرجة أصبح الجميع على يقين من هوية وزير الأوقاف، حتى قبل معرفتهم هوية رئيس الحكومة الذي سيتم تعيينه.
هذا الواقع جعل كثيرين يتساءلون حول ما إن كانت مؤهلات التوفيق وكفاءاته العالية وراء بقائه في منصبه، لأطول فترة في تاريخ المغرب، أم أنها اعتبارات أخرى غير ذلك؟
قبل الخوض في أسباب ومبررات تعمير أحمد التوفيق على رأس أغنى الوزارات بالمغرب، لابد من التعريف برجل لا يكاد المغاربة يدركون عنه شيئا سوى أنه وزير الشؤون الإسلامية.
لقد رأى النور بمنطقة مريغة بالأطلس الكبير قبل 78 سنة من عامنا هذا. تخصص في دراساته العليا بالتاريخ ودرّسه بجامعة محمد الخامس بالرباط خلال النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي. ومذ ذاك تقلد عددا من المناصب والمسؤوليات، وراكم بعضها في الآن نفسه.
فقد عمل نائبا لعميد كلية الآداب بالرباط بين سنتي 1976 و1978، ومديرا لمعهد الدراسات الأفريقية خلال الفترة الممتدة بين 1989و 1995، ثم محافظا للخزانة العامة بالرباط ابتداء من نفس السنة، قبل أن يعينه الملك محمد السادس رئيسا منتدبا لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة سنة 2015.
إضافة إلى كل هذا، فأحمد التوفيق يتولى حاليا مهام رئيس المجلس الإداري لمؤسسة مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء، وعضو اللجنة الدائمة للتربية والتكوين للجميع والولوجية بالمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، إضافة إلى مهامه الحكومية.
وزارة الأوقاف .. أسباب اختيار التوفيق
جاء تعيين أحمد التوفيق سنة 2002 في سياق زمني خاص وبالغ الحساسية بالنسبة للدولة. فالمرحلة التي تميزت ببداية عهد جديد مع اعتلاء الملك الشاب عرش المغرب، طبعتها أحداث غير مسبوقة، من قبيل اعتداءات الحادي عشر من شتنبر، وتفجيرات 16 ماي بالدار البيضاء، والتي شكلت رجة قوية غيرت من حسابات الدولة واستراتيجياتها إزاء أنماط التدين المنتشرة بالبلاد حينها.
علاوة على ذلك، فقد أثرت ظروف أخرى داخلية وخارجية في تشديد صانع القرار المغربي على مسألة الإصلاح الإيديولوجي للحقل الديني بالبلاد. ومن جملة تلك المؤثرات، انتشار الفكر الظلامي الذي شكل امتدادا لحركة الوهابية الكبرى بالمغرب، والذي طفا إلى السطح منذ فترة الثمانينيات.
كما أن ما عاشته الجارة الشرقية للمملكة من عشرية سوداء امتدت حتى سنة 2002، جعلت خيار المدخل السياسي والمؤسساتي من أجل إصلاح الشأن الديني، مطروحا فوق طاولة كبار صناع القرار بالرباط.
كل هذه المحددات مجتمعة، أدت إلى اختيار الروائي والمؤرخ الباحث في الموروث الديني المغربي، والطرق الصوفية والمريد للطريقة القادرية البودشيشية (اختياره) لمنصب وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية.
الشؤون الإسلامية .. اختيار استراتيجي للدولة.
بالنظر إلى تاريخ الوزارة يتضح أن التوفيق ليس الوحيد الذي عمّر على رأسها، بل إن بعضا من سابقيه فعلوا الشيء ذاته. خير مثال على ذلك، عبد الكبير العلوي المدغري الذي سبق الوزير الحالي وظل في منصبه لمدة لا تقل عن 19 سنة.
فوزارة الأوقاف، شأنها في ذلك شأن بعض الوزارات السيادية كالداخلية والخارجية، لا يهمها تنزيل برنامج حكومي معين، بقدر ما هي مكلفة بتنفيذ التوجهات الكبرى للدولة في قطاعاتها، وهو الأمر الذي يفسر ظاهرة الوزراء “العابرين للحكومات”، كالتوفيق والمدغري والبصري.
إن هذا الطرح لا يعني أن وزيرنا الحالي اسم عابر أو عديم الأهمية. بل على العكس من ذلك، فإن الرجل لعب دورا كبيرا في محاربة المد الظلامي، وإعادة إحياء أنماط التدين المغربية، خصوصا داخل المساجد، تماشيا مع الاستراتيجية التي نهجتها الدولة في استئصال الفكر الإرهابي عبر القضاء على كافة أشكال الإيديولوجيات أو الممارسات التي من شأنها إذكاؤه، وعلى رأسها بعض حلقات “الوعظ والإرشاد” التي كانت تنظم بالمساجد، إضافة إلى استغلال مؤسسات العبادة هذه من طرف جماعات متطرفة إما “سياسيا” أو دينيا.
إن الثناء على الوزير التوفيق في هذا المجال، لا يمنعنا من نقد عدد من الاختلالات والتعثرات في تسيير هذا القطاع الحكومي لزهاء العشرين سنة. فعهد أحمد التوفيق تميز على الخصوص بالتضييق على الخطباء والأئمة، إلى جانب تقهقر أوضاعهم المادية.
فحال القيمين الدينيين لا ينسجم بتاتا مع لقب أغنى الوزارات، الذي تستفيد منه بالمقام الأول الزوايا الروحية، ويحرم منه الأئمة والخطباء وزملاؤهم من رجال الدين.
إذ خلال عقدين من تدبير السيد الوزير لقطاع الأوقاف والشؤون الإسلامية، لم تزد أجور الأئمة عن 1500 درهم، والمؤذنين عن 800 درهم، فيما تجمدت أجور الخطباء في 2000 درهم، في حين إن الحد الأدنى للأجور المقرر بالمغرب هو 2828,71 درهم.
من جهة أخرى، فقد ازدادت حالات التضييق على حرية الأئمة والخطباء في التعبير، فمنهم من يتم توقيفه مؤقتا ومنهم من يتم تسريحه بل إن بعضهم حوكم بالسحن. لا تقتصر موجة التضييق على محتوى خطب المنابر فقط، بل إنها تطال حتى من يحتج على الأوضاع المزرية التي تمارس فيها هذه الفئات مهنها.
ولعل من أشهر الأمثلة في هذا الصدد، قضية عبد الحميد النجاري، الخطيب السابق لمسجد عمر بن الخطاب ببركان، والذي تم توقيفه مدى الحياة، لانتقاده النظام الحاكم في السعودية على المنبر سنة 2018. ومن جملة الأمثلة كذلك، قضية الإمام سعيد أبو علين، الذي صدر في حقه مؤخرا حكم ابتدائي بالسجن النافذ لمدة سنتين، لتجرئه على مطالبة الوزير بتحسين أوضاع القيمين الدينيين بالمغرب.
أمام هذه النقاط السوداء التي تعم تدبير الوزارة، يتساءل كثيرون حول الحاجة الملحة لاستمرار التوفيق وزيرا للأوقاف والشؤون الإسلامية، خصوصا وأن الظروف الحساسة المرتبطة بانتشار المد الوهابي والجماعات الدينية السياسية قد ضعفت شدتها اليوم.
إن الأمر لأخطر من ذلك في الحقيقة، لأن هذا الإصرار على بقاء أحمد التوفيق في منصبه الحكومي، يوحي برسالة مفادها أنه الكفاءة الوحيدة في مجاله بالبلاد، وأن لا بديل له على الإطلاق، خصوصا وأن الرجل على أبواب الثمانين من عمره ولا يبدو أنه سينزاح عن مقعده عما قريب.