شبحُ “الغُولة” في كل مكان..
وليست وحدَها.. معها الأشباح: “حمارُ الليل”، وتسمياتٌ شبَحيّةٌ كثيرة، ساكنةٌ في الظلام، وخاصة في المقابر، والأماكن الخالية..
كانُوا يُخِيفُونَنا بالغُولة، ونحنُ أطفال..
يُرعبُونَنا بعيشَة قندِيشَة التي يُقال إنها تَفتَرِسُ الأطفَال..
يُشِيعُونَ أنها تعتَرضُ الأطفالَ ليلا في الطريق، والجِبَال، والسفوح، وكلّ الأماكنِ الخالية..
وحسِنا أنّ “عيشة قنديشة” ساكنةٌ في الخلاء..
وفي ذلك الوقت، كانت الحالةُ الأمنية مُتدهوِرة.. الجرائمُ في كل مكان.. العصابات.. التّرامي على الناس..
وتبيّن مع السّنين أن “عيشة قنديشة” من إشاعات تاريخِنا..
كما تبيّن مع السنين، عندما كبُرنا وتعلَّمنا أن “عيشة قنديشة” هي نفسُها “السيدة الحُرّة” التي يَتغنى بها التراثُ المغربي: ناس الغيوان، جيل جيلالة، لمشاهب، كناوة، الملحُون، وكثيرٌ من الفِرَق الأخرى، وكتاباتٌ إبداعية تُبرِز هذه الشخصية: لالة عيشة، مولاة الواد، مولاة الجبال، مولاة المَرجَة، عِيشة الكناويّة، الحَمدُوشية، البَحريّة… إلخ.
تعدّدت التّسميات لشخصيةٍ واحدة، وما زال الكثيرُون، وخاصة في الباديّة، يَعتبرُونها من الجنّ، وأنّها غُولة.
وهي لم تكن كذلك، لم تكُن تتعقّب الأطفال وتفترسُ بعضَهم وتُرهب آخرين.. لم تكُن هكذا.. كانت شخصيةً مِن عُظماء تاريخِنا الوطني..
فلدى سُقوط الأندلُس في القرن الخامس عشر، خرَجت الأميرةُ عائشة «La Contesa Aisha» إلى الجِبال والوِديان لمُقاومة البُرتغال الزاحِفين على المغرب..
انضمّت للمُقاومة المَغربية.
كانت مُقاومتُها شرِسة، لدرجةِ أن الغُزاة أشاعُوا أنها تأكُلُ الأطفال، وتَفترسُ من تصل إليه من البشر.. وقد نجحُوا في إشاعة هذه الكذبة، لدرجةِ أن كثيرا من الناس، وخاصّةً في البادية، ما زالوا يُصدّقون الكذبة، ولا يُصدّقون المؤسساتِ العلمية التي إلى الآنَ تُدرّسُ أن “عائشة” أميرة، وفي حياتها مُلُوك: زوجُها في الأندلس مَلك، ولدى سُقوط الأندلُس دَخلت إلى “فاس” حيث تزوّجت الملِك.. وبعده أصبحَ ابنُها مَلِكًا..
ولا تنسَاها تطوان وشفشاون وغيرُهُما: إنها السيّدة الحُرّة..
و”السيّدة الحُرّة” هي الأميرة عائشة «La Contesa Aisha»..
المُلاحظ أن شُعوبا أخرى تتحدثُ في تُراثها عن شخصيةٍ مماثلة: في الخليج يُسمّونها أم الدويس، في مصر يسمّونها النداهة، وفي اليابان يسمّونها ذات الفمِ الممزّق، وهي مُتداولةٌ أيضا عند شعب الفايكينغ وشمال أوربا..
ومهما يكُن، ما أحوجَنا إلى تدريسِ تاريخِنا بكيفية تصلُ معه الحقائقُ إلى أطفالنا حتى لا يَقعَ لهُم نفسُ التّرهيب الذى وقَع لِي ولغيرِي، وللأجيال التي مرّت، من تحريفِ التاريخ بحيثُ كانوا يُرعبونَنا بالغُولة: “مامَا غُولة”..
هذه من أبرزِ الإشاعاتِ الناجِمة عن حُروب ما بعدَ طردِ المغاربةِ والعَرب من الأندلُس..