في هذه المحطة التاريخية من السيرة الذاتية يتوقف إفزارن الطفل في زمن الحماية الفرنسية، ليحكي لنا : كيف كانت الطفولة المغربية تتمثل الاحتلال الفرنسي للأرض المغربية. لنقرأ
طِفلُ المُقاوَمَة!
فَرنسا تَبحَثُ عن أطفالِ المُقاوَمة..
وهذا ما وقَع لي وأنا طِفل.. في ذلك الزمن، وقَفتُ ببابِ كُوخِنا، والشّمسُ ساطِعة، وباغَتَتنِي سيارةٌ عسكريةٌ فرنسيّة، وتوقّفَت عندِي..
– سيارة عسكرية ببَابِنا!
أنا وهيّ وجهًا لوَجه..
هذا يَحدُثُ لأولِ مرّة، رغم ان هذا النوعَ وغيرَه من الآليّاتٍ العَسكرية أصبَحنا نعتادُ عليه هذه الأيام، في قريةِ “رأس جيرّي”، حيث الجيشُ الفرنسي يغدُو ويَرُوح..
العسكري يبحثُ عن أطفالٍ من المُقاومة..
وفهِِمتُ أن هذا العسكريّ الواقفَ أمامي ، مسمُوحٌ له أن يُطلقَ النارَ على الناس..
هذا المَشهدُ قد فهمتُ مَعناه..
تقدٌم منّي العَسكريّ، وأَشهرَ في وجهِي بُندُقيتَه..
ولم أفهَم.. وهو قد أدركَ أنني لم أفهَم..
فأشار لي – بالبُندُقيّة – أن أرفعَ يَدَيّ.. فرَفعتُ يديّ..
وتقدّمَ منّي، وفتّشَنِي..
تأكدَ أن لاشيءَ بدَاخلِ “قشّابتِي”.. هي بَيضاءُ اللّون.. سبَق ان قال لي والدِي إنه اشتراها لكي أستعمِلَها في وقتٍ لاحِق، وتحديدًا لحَفلةِ الخِتان..
وانصرَفَ الجُندي..
ثم عُدتُ إلى داخلِ كُوخِنا..
إنه أجملُ كوخٍ في الدنيا.. فيه أجِدُ الحُرّيةَ والأمان..
وقُلتُ لأمّي: إنّ عسكريّا قد فتّشني..
فاقتربَت منّي مَذعُورة..
وقامَت هي أيضا بتفتِيشِي..
وسألَتنِي: “أين هو العَسكري؟”..
وأشرتُ لها: إنه ذهبَ بسيّارتِه..
فأطَلّت والدتي من نافذة الكُوخ، وتَمتَمَت بكلامٍ غاضِب، ثم أردَفَت: “تْفُو! يُفَتّشُون حتّى الأطفال.. أعوذُ بالله!”..
وجَلَسنا أنا وأمّي معًا خارجَ الباب، أمامَ الكًوخ، وهذا مَكاني المُفضّل..
أعشِقُ هذا المكان.. منهُ أرفعُ عينيّ إلى فَوق.. وأرَى السّماء..
وكانت الشمسُ في كَبِدِ السماء.. وأُمّي تَربِتُ على كتِفي، وتَمسحُ رأسِي، وتَتأمّلُني: “أحمد! هل كُنتَ خائفًا؟ أنا مُتأكّدةٌ أنكَ شُجاع.. إنكَ انت ابنُ رجُل، وحفيدُ الرّجال.. وقَبّلَت وَجنتَيّ.. وحَكَت لي أنّنِي مُقبِلٌ على الرّجُولة: “يا بُنَيّ! سيَأتي عندنا الحَجّام، وسوفَ يَختِنُك، لكَي تكُونَ رجُلاً…”..
ثم ضَحِكتْ أمّي..
وقَبّلتْني..
وعادت إلى مَشاغِلها في البيت..
ولدَى عَودةِ والدِي، حَكت لهُ أن عَسكريًّا قد جاء، وفتّشَ ابنَنا “أحمَد”..
وقصّتْ لأبي ما وقَع.. فضَحِك ضَحكةً كُبرى.. وقال: “لا تَقلق يا بُنَيّ! أنتَ رجُل.. وابنُ رجُل.. لقد ظَنّ أنّ تحتَ قشّابتِك سِلاحّا خطيرًا.. وفِعلاً، عندَكَ سِلاح”..
وأضافَ أبِي: “إنّك مُقاوِم.. أصغرُ مُقاوِم.. وبك أفتَخِر”..
ولم أفهَم شيئا.. فهِمتُ فقط أن أبي قال كلامًا يُطمْئِنُني.. وابتَسَمتُ للوالد..
وردّ عليّ بابتِسامة..
وكثيرا ما كانت الابتِسامةُ المُتبادَلةُ لُغتَنا التواصُلية.
الابتِسامةُ أبلغُ تعبيرٍ لطمأنة الطفولة..
ثُمّ ضَحِكَ أبي حتّى سَمِعَتهُ أُمّي..
وسألَتْهُ: “لِمَاذا تَضحَك يا عَمْرو؟ اَضْحِكْنا معك!”..
قال أبي: “أتحدّثُ عن السّلاحِ الذي عَنهُ يُفتّشون، ظنُّوا أن ابنَنا أحمد يُخبّئهُ تحتَ قشّابتِه”..
وأنا لم أفهَم شيئًا..
وأشار أبي لوالدتِي: يا فاظْمة، تَعاليْ ببِرّادِ شَايٍ مُنَعنَع، وبرُفقتِه “بَغْرِيرَة”..
انصرَفَت أمّي لإعدادِ المَطلُوب، والتَفتَ إليّ أبي مُبتَسِمًا: “أسِّي أحمد.. أنتَ ستَكُونُ رجُلاً حقيقيّا.. فاستَعِدَّ لمَعركةِ الرّجال.. غدًا سيَكُونُ عندنا الحَجّام “السِّي المَعْطِي” لكي يقُومَ بخَتنِك يا ابْنِي.. الخِتانُ مُهِمّ.. هو علامُةُ الّرجُولَة.. سوفَ نَفرَحُ بك!”..
ولم أفهَم شيئًا..
لا مَعنَى الخِتان..
ولا مَعنَى الرّجُولة..
ولكنّني فَرِحتُ لِفرَحِ والدِي ووالِدتِي..
وجاءَت أمّي بالصّينيّة، وفيها ما يُؤكَلُ ويُشرَب..
وأخذَتْ مَكانَها إلى جوارِ أبِي..
وقالت له أُمّي: إذن، لن تَذهبَ غدًا إلى السُّوق؟!
أجابَها: “سَأشتَغلُ في بِناء المَدرسةِ الجديدة”..
ثم مَدٌ لي قِطعةَ “بَغْرِيرةٍ” ساخِنة، وكأسَ شايٍ مُنَعْنَع..
لقد كانت أُكلَةً لذِيذة..
والتفَتَ إليّ أبي من جديد: “بعدَ الخِتان، ستَذهبُ إلى المدرسة.. سنَبنِيها بجِوارِ كُوخِنا.. المَدرسةُ قَريبةٌ جدّا.. ستَكُونُ هُناك، على بُعدِ أمتار.. امامَ كُوخِنا.. المَدرسةُ هي جارَتُنا”..
ثم دَعانِي إلى الصّلاَة..
وقال: “سأُعلّمُك كيف تُصَلّي”..
وصباحَ الغَد، كان أبي على بُعدِ أمتارٍ قليلة من كُوخِنا..
وسمِعتُ المَسؤولَ عن البِناءِ يُنادِيه: “يا المعَلّم “عْمَرو”! رُدَّ بالَك للخَدّامِ الجَديد! تأكّدْ أنهُ في المُستَوى المَطلُوب؟”..
أجابهُ الوالد: “لا تَقلق! يبدُو أنهُ خَدّامٌ جيّد!”
وبَدأَتِ المدرسةُ تَكبرُ أمامِي..
أتَتَبّعُها وهي تَكبرُ..
كلَّ صباحٍ أقفُ بباب كُوخِنا، وأستَمتِعُ بمَنظَرِ المَدرسَةِ وهي تَعلُو وتَعلُو